الاقتصادية

اقتصاد السوق مقابل الاقتصاد الموجَّه: مقارنة بين النظامين

يشكّل اقتصاد السوق والاقتصاد الموجه نموذجين متقابلين في تنظيم الأنشطة الاقتصادية، إذ يتجلى الفارق الجوهري بينهما في تحديد من يمسك بزمام عوامل الإنتاج وكيفية تحديد قيمة السلع والخدمات.

ففي الاقتصاد الموجه، تحتكر الدولة زمام الأمور وتحدد الكميات والأسعار، في حين يترك اقتصاد السوق حرية تحديد القيم للملكية الخاصة ولقوى العرض والطلب.

اقتصاد السوق

تعتمد آلية السوق الحرة على تفاعل العرض والطلب لتحديد نوعية وكمية السلع والخدمات التي يتم إنتاجها، فبناءً على رغبات المستهلكين ومحدودية الموارد، تتشكّل أسعار السلع، والتي بدورها توجه المنتجين لتلبية تلك الرغبات.

وقد أطلق مؤسس علم الاقتصاد “آدم سميث” على هذه الآلية تسمية “اليد الخفية”، حيث تعمل الأسعار كإشارات توجه الموارد تلقائيًا نحو الأنشطة الأكثر ربحية والأكثر احتياجًا إليها.

وتضطلع الحكومات بدور تنظيمي مكمل في اقتصاد السوق، حيث تتدخل لضمان المنافسة العادلة وحماية المستهلكين، وذلك من خلال تطبيق الضرائب والتشريعات المختلفة.

ويرتبط اقتصاد السوق ارتباطًا وثيقًا بالرأسمالية، التي تشجع على الملكية الخاصة وحرية التجارة، مما يحفز على الابتكار والنمو الاقتصادي.

ورغم الفوائد العديدة التي يقدمها اقتصاد السوق، إلا أنه لا يخلو من تحديات: إذ إن السعي لتحقيق أقصى ربح قد يؤدي إلى تهميش بعض الفئات المجتمعية، وعدم توفير الضروريات الأساسية للجميع، كما قد يتسبب في تركز الثروة والسلطة في أيدي قلة.

وقد انتقد الفيلسوف “كارل ماركس” هذا النظام، مؤكدًا أنه يؤدي إلى تركز الثروة والسلطة في أيدي قلة قليلة، مما يزيد من الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

ومن جانبه، رأى الاقتصادي “جون ماينارد كينز” أن الاعتماد الكلي على آليات السوق غير كافٍ لضمان الاستقرار الاقتصادي، فقد أشار إلى أن الدورات الاقتصادية، مثل الانكماش والركود، تتطلب تدخلًا حكوميًا فعالًا لتنظيمها وتوجيهها.

الاقتصاد الموجَّه

1875390a eed5 4627 a7d9 b7586edbf9b4 Detafour

تتميز الاقتصادات الموجهة بتركيز صلاحيات اتخاذ القرارات الاقتصادية بشكل كامل في يد الدولة، فالدولة هي المالك الرئيسي لمعظم -إن لم يكن كل- المؤسسات الإنتاجية، وتتولى إدارة شؤونها.

في ظل الاقتصاد الموجه، تخضع عملية تخصيص الموارد لقرارات سياسية واقتصادية مشتركة، فالحكومة هي التي تحدد ما الذي ينتج، ومتى، وأين، وبكميةٍ معينة، وبما أن آليات العرض والطلب الحرة غير موجودة، فإن الحكومة هي التي تحدد الأسعار مباشرة.

يسعى الاقتصاد الموجه إلى تحقيق العدالة الاجتماعية بتلبية الاحتياجات الأساسية لجميع أفراده وتوفير فرص متساوية للجميع.

ومع ذلك، تكشف التجربة الكورية الشمالية عن تحديات جمة تواجه هذا النمط الاقتصادي، رغم أهدافه النبيلة.

يرى الاقتصادي النمساوي “لودفيج فون ميزس” أن الاقتصاد الموجه محكوم بالفشل، إذ إن غياب آليات السوق الحرة من منافسة وملكية خاصة لوسائل الإنتاج يحول دون تحديد أسعار معقولة، مما يؤدي إلى اختلالات اقتصادية واسعة النطاق.

أما الاقتصادي الشهير “ميلتون فريدمان” فيرى أن الاقتصاد الموجه يفرض قيودًا شديدة على حريات الأفراد الاقتصادية، ويحد من قدرتهم على اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهم الاقتصادية.

الجمع بين السياسات الاقتصادية

على الرغم من التنوع الكبير في الأنظمة الاقتصادية حول العالم، إلا أن غالبية اقتصادات العالم المعاصر تعتمد على نموذج اقتصادي هجين يجمع بين مبادئ التخطيط المركزي وآليات السوق الحرة.

حتى الاقتصادات التي كانت معروفة باتباعها للاقتصاد المخطط، مثل كوبا، تحولت بشكل كبير نحو تبني مبادئ الاقتصاد الحر.

ومثالًا على ذلك، في عام 2021، شهدت كوبا تحولًا كبيرًا نحو اقتصاد السوق من خلال خصخصة العديد من الشركات المملوكة للدولة.

0573ce63 8a88 4284 95cc a0ad6db99b2f Detafour

وعلى النقيض من ذلك، وعلى الرغم من شهرة الولايات المتحدة كمعقل للاقتصاد الحر، فقد تبنت خلال الحرب العالمية الثانية نظامًا اقتصاديًا مركزيًا استجابة لمتطلبات الحرب.

ورغم عودتها إلى نظام أكثر ليبرالية بعد الحرب، إلا أنها لا تزال تحتفظ ببعض سمات الاقتصاد الموجه، حيث تشمل سياساتها الاقتصادية برامج رعاية اجتماعية واسعة النطاق.

في الختام، يشكّل الاقتصاد السوقي والاقتصاد الموجه نماذج مختلفة في تنظيم الأنشطة الاقتصادية، كل منها يعكس فلسفة مختلفة في إدارة الموارد وتوزيع الثروات.

بينما يعزز الاقتصاد السوقي من دور القوى الحرة للعرض والطلب، مشجعاً على الابتكار والنمو عبر تحفيز الملكية الخاصة والتجارة، يركز الاقتصاد الموجه على الدور المركزي للدولة في تحديد الكميات والأسعار، مما يهدف إلى تحقيق استقرار اجتماعي واقتصادي.

لكن في عالمنا المعاصر، قد يكون الحل المثالي هو الجمع بين عناصر من كلا النظامين، يمكن أن يستفيد الاقتصاد من مرونة السوق في تحفيز الابتكار والنمو، بينما تسهم التدخلات الحكومية المدروسة في تقليل الفجوات الاقتصادية وضمان توفير الخدمات الأساسية.

تعد هذه الاستراتيجية المتوازنة ضرورية لتحقيق استدامة اقتصادية وشمول اجتماعي في ظل التحديات المعقدة التي تواجه العالم اليوم.

لذا، تبقى أهمية فهم كيفية التوفيق بين هذين النموذجين وتطبيقه بما يتناسب مع ظروف كل مجتمع، أمرًا حيويًا لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى