من الاستجابة التقليدية إلى الذكية: الذكاء الاصطناعي وإدارة الأزمات
نعيش في مرحلة حرجة يشهد فيها العالم مستويات غير مسبوقة من الصراعات العنيفة، جنبًا إلى جنب مع تفاقم الكوارث المناخية. في هذا السياق، تتزايد الضغوط على المجتمع الدولي لاختبار قدراته في مواجهة هذه التحديات المعقدة.
تتطلب الأزمات الحديثة استجابات سريعة وفعّالة قد تكون حاسمة في إنقاذ الأرواح، تقليل الخسائر، وتسريع عمليات التعافي. هذا ما يعزز قدرة المجتمعات على العودة إلى وضعها الطبيعي في أقصر وقت ممكن.
تتجسد إحدى هذه الاستجابات في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية، التي تُحدث ثورة في العديد من المجالات.
لا سيما في مجال الاستجابة للأزمات الإنسانية والتنموية، حيث يُستخدم الذكاء الاصطناعي لتوفير دعم أسرع وأكثر فعالية للمجتمعات المتضررة.
يُعتبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من بين المؤسسات التي تعتمد هذه الأدوات الرقمية لتقديم الاستجابات المناسبة عند وقوع الأزمات.
ومع ذلك، تواجه هذه التقنيات تحديات تخص القوى السوقية التي تحدد كيفية تشكيل وتوجيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بما يتوافق مع احتياجات القطاع الخاص.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي إدارة الأزمات العالمية |
|
1- تقييم الأثر الرقمي في الوقت الفعلي
|
– يُعدّ توفر البيانات الآنية حول حجم الأضرار والتأثيرات في أعقاب الأزمات أمرًا بالغ الأهمية. – لهذا الغرض، طوّر مكتب إدارة الأزمات التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي أدوات تعتمد على نظم المعلومات الجغرافية (GIS) قادرة على توفير رؤى سريعة حول المواقع المتضررة، والسكان، والبنية التحتية، وتقديرات حجم الأنقاض، واستخدامات الأراضي، ما يُشكّل عناصر أساسية للتخطيط لجهود الإنقاذ والتعافي. – وبدعم من الذكاء الاصطناعي، تعتمد أداة التقييم الرقمي السريع (RAPIDA) التي طُورت على هذه الأدوات، وتستفيد من صور الأقمار الصناعية، ومنصات التواصل الاجتماعي، وبيانات الإضاءة الليلية لتقديم رؤى آنية عقب وقوع الأزمة. – على سبيل المثال، عقب الزلزال الذي ضرب مدينة هرات في أفغانستان، ساهمت أداة RAPIDA في تحديد المواقع المتضررة بدقة لإجراء تقييمات ميدانية. – ساعد ذلك في توفير الوقت وجمع بيانات قيّمة حول المناطق النائية التي يصعب الوصول إليها. – كما أمكن تقدير عدد المنازل المتضررة وكمية الأنقاض من خلال إضافة معلومات حول مواد البناء وأبعاد الهياكل. |
2- تشغيل الموظفين بالذكاء الاصطناعي
|
– يُعدّ توفير الكفاءات البشرية المناسبة على أرض الواقع في أوقات الأزمات أمرًا بالغ الأهمية. – ولهذا الغرض، صُممت منصة النشر التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، المدعومة بتقنية EVA.ai، بهدف التوفيق بين الموظفين ذوي المهارات العالية والاحتياجات الميدانية. – وتراعي هذه المنصة معايير متعددة، من بينها الخبرة والتوافر والقرب المكاني واللغات المُتقنة والخبرة السابقة في مهام مماثلة. – وبفضل تقنية EVA.ai، بات من الممكن تحديد الخبراء الأكثر ملاءمة على الفور والتأكد من استعدادهم وتواجدهم. – تُعدّ هذه المنصة حاجة أساسية لمنظمة قامت بنشر أكثر من 2450 موظفًا من خلال قوائمها هذا العام. – قدّم هؤلاء الخبراء الدعم لأكثر من 150 مكتبًا تابعًا لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، بما في ذلك المكاتب العاملة في سياقات الأزمات مثل سوريا وأوكرانيا وبربادوس. – ولتعزيز قوة هذه القائمة، أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مؤخرًا نداءً عالميًا حصد أكثر من 25000 طلب. – ساهمت أدوات الذكاء الاصطناعي، مثل خاصية التعبئة التلقائية للبيانات، في تقليل وقت تقديم الطلب إلى 2.5 دقيقة فقط. |
3- تجارب تعليمية مخصصة
|
– يتطلب الاستعداد للأزمات على المستوى المؤسسي تطويرًا مستمرًا للمهارات. – تُقدّم أكاديميةُ الأزمات التابعة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تدريبًا مُركّزًا وفرصًا تعليمية لإعداد المُستجيبين للأزمات في البرنامج، من الموظفين ذوي المستوى المتوسط إلى المستوى العالي الذين يتم اختيارهم عبر عملية تقديم صارمة. – وبالإضافة إلى الدورات التدريبية غير المتزامنة عبر الإنترنت والتدريب المباشر الحضوري، تختبر الأكاديمية تقنياتٍ حديثة لتحسين تجارب التعلّم. – ففي تدريب الاستجابة السريعة الذي عُقد مؤخرًا في نيويورك، استُخدمت تقنية الواقع المُعزّز لإنشاء مُحاكاة تفاعلية غامرة للأزمة، ما مكّن المشاركين من تقييم الأضرار وتأثيرات الأزمة افتراضيًا. – وبالمثل، يُمكن استخدام هذه الأداة أيضًا لإعداد “حقيبة ظهر” افتراضية للموارد الرئيسية، كالإحاطات السابقة للانطلاق، والمعلومات الموجزة عن البلد ومتطلبات الأمن والطب؛ أي كل ما يحتاجه موظفو الاستجابة للأزمات قبل السفر في مهمة. – وتتمثل الرؤية المُستقبلية في زيادة تخصيص التعلّم باستخدام وحدات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، ما يُتيح تدريبًا شخصيًا يتكيّف مع احتياجات المُتعلّم وخبرته. |
4- مساعد رقمي لمهام الأزمات
|
– يُدرك الخبراء المتمرسون في التعامل مع الأزمات مدى صعوبة الحصول على المعلومات الصحيحة والدقيقة في خضمّ محاولتهم إعداد وثيقة برنامج متكاملة تحت وطأة ضيق الوقت. – وفي مختلف المجالات والصناعات، يمكن إنجاز المهام المحورية، مثل توفير الموارد اللازمة، أو تجميع وثائق المشروع، أو التواصل الفعّال مع الجهات المانحة، بكفاءة وفاعلية أكبر. |
5- إدارة استباقية للأزمات
|
– يستثمر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أيضًا في أنظمة الإنذار المبكر، ساعيًا إلى التحول من إدارة الأزمات التفاعلية إلى إدارة الأزمات الاستباقية. – تجمع لوحة معلومات مخاطر الأزمات لدينا بين البيانات التاريخية والبيانات الآنية (شبه الآنية) مع توقعات المخاطر المستقبلية، لتزويد المكاتب القُطرية بمنصة مركزية لرصد المخاطر وتحليلها وتصويرها. – وتستفيد هذه اللوحات من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتنقية البيانات وتحليلها وتلخيصها. – تُعد هذه الأداة مفيدة في التنبؤ بالمخاطر وتحديد البؤر الساخنة قبل تفاقمها، ويمكن تصميمها خصيصًا لتناسب سياقات واحتياجات برامج محددة. – ففي سريلانكا، تُستخدم لوحة معلومات مخاطر الأزمات لرصد خطاب الكراهية والعنف الديني وقضايا الاقتصاد الكلي، بينما تُستخدم في الإكوادور لتتبع النزوح والهجرة. – وذلك بهدف تحويل هذه الأداة إلى منصة عمل فعلية، بحيث يُمكن لخطر أزمة حرج أن يُطلق تلقائيًا الاستجابات المؤسسية المطلوبة، بما في ذلك توفير الموارد ونشر الموظفين. – ومع التقدم المطرد في مجال الذكاء الاصطناعي وتوفر بيانات أفضل، يُمكن أن تُصبح لوحة معلومات مخاطر الأزمات حلاً رئيسيًا للإنذار المبكر لمنظومة الأمم المتحدة. |
في المجالين الإنساني والتنموي، تتبلور الخطط لاستخدام الذكاء الاصطناعي من أجل تحسين العمليات وزيادة كفاءتها. من خلال تعاون القطاع الخاص، يمكن تسريع الوصول إلى هذه الحلول الفعالة.
لكن مع كل هذه الإمكانات، تظل التحديات الأخلاقية قائمة، أبرزها الحفاظ على الخصوصية والحد من التحيزات التي قد تظهر في هذه الأنظمة. لذلك، لا بد من مراقبة دقيقة وضمان إشراف بشري فعال.
من هنا تأتي أهمية وضع معايير عالمية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في المجال الإنساني، لضمان استفادة آمنة وفعّالة من هذه التكنولوجيا، مما يتيح للمجتمعات تعزيز قدرتها على الصمود في وجه الأزمات، والمساهمة في بناء عالم أكثر مرونة واستدامة.