لماذا تتكرر أزمات سوق الأسهم دائما .. وبنفس التفاصيل؟
“هؤلاء الذين لا يتذكرون التاريخ محكوم عليهم بتكراره”.. هذا ما قاله الفيلسوف الأميركي- الإسباني الشهير “جورج سانتيايا” لدى إجابته عن سؤال جوهري، وهو لماذا يقع البعض في نفس الأخطاء التي وقع فيها من سبقهم، أحيانا ببعض التعديل في التفاصيل، وكثيرًا ما يتكرر الخطأ وكأنه استنساخ لما حدث سابقًا دون أي تغيير.
ولا يختلف سوق الأسهم في هذا الأمر، فأزمات مثل انهيار 1929 والأزمة المالية العالمية 2008 وفقاعة دوت كوم في أوائل الألفية الثالثة وأزمة الأسواق المالية الآسيوية في نهاية التسعينيات من القرن المنصرم كان لها أسباب/عوامل تشابه كثيرة تدعو للتساؤل: لماذا تتكرر الأزمات في سوق الأسهم؟ ولماذا لا يتعلم المتداولون؟
“المشاعر” وفقدان السيطرة
عندما سُئل “مايكل باري” أحد أشهر من حققوا أرباحًا خلال الأزمات في سوق الأسهم، لا سيما في أزمتي فقاعة دوت كوم والأزمة المالية العالمية، عن سبب تمكنه من تحقيق الأرباح في الوقت الذي يتكبد فيه السوق خسائر فادحة، كانت إجابته “أستطيع التحكم في مشاعري ولا أترك الشاشات تقوض حكمي على الأمور، وأبقى هادئًا حتى لو بدوت خاسرًا لبعض الوقت”.
وهنا يمكن القول إن “باري” تمكن من تجاوز التأثير السلبي للمشاعر على المتداول، والذي يؤثر على نسبة تتراوح بين 85-97% من المتداولين وفقًا للدراسات، ولا شك أن مشاعر مثل الغضب والإحباط والحزن والشعور بالهزيمة والطمع والخوف تذهب بكثير من رجاحة عقل المتداولين، بما يدفعهم لاتخاذ قرارات سيئة.
والشاهد هنا أن مشاعر المتداولين في السوق كثيرًا ما تتشابه، سواء في ارتفاع السوق أو انخفاضه، بما يجعل شعور الخوف أو الطمع للمستثمر مدعومًا بشعور من حوله أو بما يحيطه من التحليلات المغرقة في التفاؤل أو التشاؤم وموجات البيع أو الشراء.
مثال بارز
ولعل المثال الأبرز على فكرة تحكم المشاعر في المتداولين وتكرار نفس الأخطاء هو في المستثمر الكوري الشهير “بيل هوانج” الملقب بشبل النمر والمؤسس لصندوق “أركيجوس كابيتال” الذي خسر 20 مليار دولار في يومين فقط في مارس 2021 لرهانه على هبوط أسهم، ثم ارتفعت الأخيرة على أرض الواقع، ولكن اللافت أن هذه لم تكن المرة الأولى التي يخسر فيها أمواله في السوق.
ففي 2013 خسر “هوانج” أكثر من 400 مليون دولار في رهان على انخفاض أسهم أيضا، وذلك بعد أن كان موضوعًا باستمرار على لائحة البنوك الأمريكية السوداء (لهؤلاء الذين لا يقومون بإقراضهم الأموال) منذ 2008، وهو العام الذي شهد خسارته لكامل ثروته أيضًا بسبب رهانه على انخفاض أسهم “فولكس فاجن” التي ارتفعت لتكبده خسائر ضخمة مع تبنيه لمنهج البيع على المكشوف.
والشاهد أن طمع “هوانج” زاد بعد أن تمكن من تنمية ثروة تقدر بـ200 مليون دولار في نهاية 2015 إلى 30 مليار دولار تقريبًا في بداية عام 2021، بأسلوب البيع على المكشوف، بما يجعله يقامر بأمواله كلها على سهمين فقط، وتأثر هذان السهمان بتداعي “أركجيوس كابيتال” واضطرار بنكي “مورغان ستانلي” و”دويتشه بنك” لبيع أسهم، أي أن “هوانج” راهن على أشياء خارج إطار قدرته على التحليل أو التوقع حتى.
وهنا يثار تساؤل، إذا كان نفس الشخص يكرر أخطاءه عدة مرات بهذا الشكل في سوق الأسهم، فكيف يمكن توقع أن يتمكن غالبية المتداولين بالتعلم ممن سبقهم؟
غياب الرشد و”جموع المتداولين”
مما يتكرر كثيرًا في سوق الأسهم هو وجود ما يوصف بـ”التيار غير الرشيد” داخل السوق، نتيجة لخطأ يرتكبه كثير من المتداولين بالتعامل بمنطق “أموال السوق”، ويقصد بها الأموال التي تزيد على رأس مال المتداول، والتي يكون عادة أكثر استعدادا للمخاطرة بالأموال الإضافية التي ربحها في السوق.
فلو أن شخصًا دخل السوق واشترى سهمًا سعره 50 ريالًا، وارتفع سعر السهم ليصل إلى 60 ريالاً بعد فترة فإن كثيرا من المتداولين لا يقومون بتقييم السعر الحالي (المرتفع)، وما إذا ما زال سعرًا عادلًا للسهم أو أن السهم في طريقه لمزيد من الزيادة أم لا، ولكنه يظل محتفظاً به حتى وإن بدأ في التراجع بسبب اعتبارات جديدة ظهرت حول الشركة أو القطاع الذي تنشط به مما يؤدي لتراجعه.
ويقوم هذا الشخص بالاحتفاظ بالسهم الذي انخفض لـ57 ريالًا، على الرغم من أن كافة المؤشرات تشير إلى أن المنحنى في سبيله للاستمرار منخفضًا، ثم يحتفظ به لمستوى 52 ريالًا أيضا، ثم يبدأ في التفكير في التخلص من السهم إذا عاد لمستوى 50 ريالًا أو دون ذلك، كل هذا لأنه بدأ يخسر “رأس ماله” بينما كان ينظر لـ10 ريالات التي حققها في السهم لدى ارتفاعه على أنها أموال السوق.
وعلى الرغم من أن هذا يبدو تصرفًا فرديًا يلحق الضرر بأصحابه فحسب، فإنه تكرر على مدى العصور منذ أول أزمة حدثت في أسواق المال في “سوق التيوليب” في أوائل القرن السابع عشر، فيبيع المتداولون الأسهم المتراجعة عند مستويات شرائهم لها أو تحتها بقليل ليدعموا المنحنى الهابط ليسود بيع الذعر وتتفاقم الأزمة وربما الانهيار في سوق الأسهم.
العقد غير المكتوب
وهنا علينا تذكر كتاب “أنتوني جاليا” الشهير “الثيران يجنون الأموال، والدببة يجنون الأموال، لكن الخنازير يتم ذبحها”، والذي جاء كمحاولة لرصد سبب تكرار أزمات الأسواق ولسبب تحقيق نسبة قليلة من المستثمرين للأرباح وخسارة الغالبية.
ويشير “جاليا” إلى أن البورصات على مستوى العالم شهدت 14 أزمة أو انهيارًا بسبب الهلع بين عامي 1819 و1907، وتراوحت خسائر البورصات فيها بين 22%-76%، ومع ذلك استمرت الأزمات رغم ذلك لاعتقاد كل شخص أنه سيكون “أكثر حظًا من غيره”.
وهنا يجب الانتباه إلى النظرية التي يشير إليها “جاليا” وعدد آخر من المفكرين الاقتصاديين وهي أن سوق المال يعمل أحيانًا -وفي الظروف الطبيعية- بطريقة تشبه التوافق أو العقد غير المكتوب بين المتداولين على دعم الصعود حتى ولو لم تكن الحقائق تدعم ذلك الصعود، لأن ذلك يصب في مصلحة الجميع بشكل ما باستحواذ السوق على أموال من خارجه بانتظام ونمو قيمته.
ولكن ما يحدث عند انقلاب المؤشرات والمزاج العام للسوق لسبب أو لآخر فإن الذعر يسيطر ويتم فسخ هذا التعاقد غير المكتوب بين المتداولين ليسعى كل شخص لـ”النجاة” بنفسه، فتنهار الأسواق بشكل كبير وسريع ويعاني كثيرون من الخسائر بعد أن حصدوا المكاسب.
وبشكل عام تكشف الدراسات أنه قبل حدوث 75% من الأزمات الكبيرة التي ضربت السوق الأمريكي تاريخيًا كانت معنويات السوق عالية، والتوقعات بالنمو سائدة، بما يؤكد أن أحد أخطر أسباب الأزمات الاقتصادية هي عدم التحوط لها والتنبه لنذرها، بل والعمل كما لو كانت مستبعدة تمامًا.
تأثير الدورات الاقتصادية والتحسب لذلك
والشاهد أن الدورات الاقتصادية لها تأثيرها الحاسم على تكرار أزمات الأسواق المالية أيضا وعلى انتعاشها أحيانًا، ومن ذلك ارتفاع مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” بنسبة 195% بين عامي أوائل 2010-2019 بسبب الدورة التوسعية التي شهدها الاقتصاد والتي كانت بين أطول الدورات الإيجابية في التاريخ الأمريكي وساهمت في صعود غير متوقف للسوق.
بينما فقد المؤشر الأمريكي الرئيسي نفسه قرابة 50% من قيمته إبان الأزمة المالية العالمية ومع دخول الاقتصاد في انكماش ودورة يصعب فيها بدء المشاريع الجديدة وتوسيع تلك القائمة كما يثار فيها التساؤلات عن تأثير انخفاض الإنفاق الاستهلاكي وتراجع معدلات التشغيل على الشركات في مختلف القطاعات.
وهنا يجب التنبه إلى أن كبار المستثمرين يدركون حقيقة مرور الاقتصاد بدورات انكماش، ويكون تحوطهم لها من خلال الأسهم الأكثر قوة، وهي التي تنكمش بنسب أقل من غيرها، ويكون استعادتها لمستوياتها السابقة أسرع وغالبا ما تتخطى ما كانت عليه قبل الأزمة، ويمكن أن نحصر تلك الأسهم في الشركات قليلة المخاطرة، والتي تتمتع بمعدلات مديونية منخفضة، وتتسم تقاريرها بقدر كبير من الوضوح والشفافية.
وفي هذا الإطار تقدم شركة “فيديتلي” الشهيرة لإدارة الاستثمارات 3 نصائح للمستثمرين لتفادي تلك الأزمات:
احذر من أن تلعب العواطف دورًا فعالًا في عملية صنع القرار: بما في ذلك الطرق التي تخرج عن نطاق التفكير الواعي، فغالبًا ما يعتمد الناس على العواطف لاتخاذ القرارات لأنها توفر الوقت والطاقة العقلية مقارنة بالنهج المدروس.
ولكن النهج العاطفي منطقي للقرارات اليومية ذات المخاطر المنخفضة، مثل “ماذا سأتناول على الغداء؟” ولكنها قد لا تكون منطقية عند الاستثمار لأهداف طويلة الأجل.
اعلم أن “الاستماع لحدسك” يمكن أن يؤدي إلى خيارات أفضل أو أسوأ: قد يتكبد المستثمرون الذين يصيبهم الذعر ويبيعون الأسهم خسائر ويفقدون المكاسب المحتملة. من ناحية أخرى، يمكن أن تكون العواطف أيضًا بمثابة علامة تحذير مفيدة، مثل الشعور بالقلق الذي ينتابك عند التفكير في الاستثمار في سهم محفوف بالمخاطر ومجهول البيانات.
كن يقظًا: عندما تهتز السوق وتشعر بـ”اندفاعات عاطفية” عليك التوقف للتفكير في الحاضر، أي أن تتوقف عن التفكير في الأسهم تماما لفترة وجيزة، من خلال التأمل مثلا، وشكر النعم، ثم إعادة التركيز على الأسهم ولكن على المدى الطويل وليس على الصورة الحالية، وأن تسأل نفسك: هل ما أشعر به الآن منطقي؟ وماذا يمكنني أن أفعل لأفكر بشكل عقلاني؟
وهنا فإنه يتأكد أن الأزمات في سوق الأسهم تكرر نفسها لأن “الإنسان هو نفسه” ولأن هناك دورات اقتصادية وتقلبات لا يستطيع غالبية المتداولين في سوق الأسهم التحسب لها، ولذلك ينجح في سوق الأسهم من يستطيع أن يستوعب العوامل المؤثرة في السوق بشكل جيد، ويحسن تقديرها، والأهم يحتفظ بتوازنه في مواجهة المكاسب أو الخسائر.