كيف يُمكننا فهم العالم من خلال المقايضات؟
– عندما يتناول خبراء الاقتصاد قضايا شائكة كشبح البطالة، أو وحش التضخم، أو كابوس عجز الميزانية، فإنهم يعتمدون أسلوبًا تحليليًا موضوعيًا بعيدًا عن العواطف الشخصية.
– رغم ذلك لا يقتصر نطاق تحليلاتهم على هذه المواضيع التقليدية، بل يتسع ليشمل قضايا أخلاقية معقدة لا تخضع بالضرورة لمنطق علم الاقتصاد.
– يتضمن ذلك تجارة الأعضاء البشرية، وإدمان التدخين، وتقدير قيمة الحياة، ومخاطر الإفراط في الطعام، ومدى سلامة المنتجات، فالمقايضات، ببساطة، هي جوهر المنهج الاقتصادي في تحليل القضايا السياسية المثيرة للجدل.
– يُقدم هارولد وينتر في هذا الإطار للقراء أدوات تحليلية قيّمة لفهم المقايضات المرتبطة بهذه المواضيع المُلغزة.
– ومن خلال تقييم تكاليف وفوائد الحلول السياسية المُقترحة، يُؤكد المؤلف على ضرورة الاعتراف الصريح بأكبر عدد ممكن من هذه المقايضات عند اتخاذ القرارات في عالم مليء بالتحديات.
– صدرت الطبعة الأولى من كتاب “المقايضات” للبروفيسور هارولد وينتر من جامعة أوهايو عام 2005، ليصبح مقدمة شائعة في مجال الاستدلال الاقتصادي، والآن، يُصدر وينتر طبعة ثالثة “مُحدّثة” لعرض أفكاره المُستجدة على القراء.
– يُغطّي الكتاب الجديد القضايا التي ناقشها في الطبعات السابقة، مثل قيمة الحياة البشرية، وأسواق الأعضاء البشرية، وقانون حقوق النشر.
– كما يُضيف وينتر قضايا جديدة في هذه الطبعة، مثل المجال البارز والقانون الجنائي واقتصاديات الرعاية الصحية.
– ستُذهل هذه المقدمة العديد من القُرّاء الجُدد، وربما حتى بعض الاقتصاديين المُتمرّسين، يتبع وينتر منهجية مُحدّدة في تحليله، وهي: “تحديد المقايضات، وقياسها، والتوصية بالسياسة المُناسبة”.
– يُعرّف وينتر “المقايضات” على أنها الفوائد والتكاليف المُترتّبة على أي خيار، ويُقدّم أمثلة من دراسات تجريبية من مختلف المجالات، والتي غالباً ما تُظهر نتائج مُتضاربة.
– على سبيل المثال، يُشير أحد الاقتصاديين إلى أنّ عقوبة الإعدام تُقلّل بشكلٍ واضح من جرائم القتل، بينما يُجادل آخرون بأنّ تأثيرها على معدّل جرائم القتل غير محدد.
– يؤكد وينتر على قصور الدراسات التجريبية عن تقديم حلول نهائية للقضايا الاجتماعية، ويرجح أن يشعر القراء بالإحباط حيال التناقضات في النتائج التجريبية، مما يدفعهم للتساؤل عن غياب الإجماع بين الاقتصاديين حول قضايا اجتماعية مهمة.
– يتبنى المؤلف عادةً هدف تعظيم “الرفاهية الاجتماعية” المتمثلة في الفرق بين الفوائد والتكاليف، بينما يتجاهل بعض غير الاقتصاديين أحد هذين الجانبين أو كليهما.
– لا يُشترط على من يفكرون في القضايا الاجتماعية تبني هدف تعظيم الرعاية الاجتماعية (الكفاءة)؛ بل قد يسعون لتحقيق هدف الإنصاف (العدالة).
– يؤكد وينتر على أن تعريف “الرفاهية الاجتماعية” وتحديد من يجب شموله، سواء من منظور الكفاءة أو العدالة أو أي منظور آخر، يظل مسألة رأي قابلة للاختلاف.
استخدام القصص الإخبارية لتدريس الاقتصاد:
– يُوظف الكاتب القصص الإخبارية كأداة فعّالة لشرح المفاهيم الاقتصادية، فعلى سبيل المثال، عندما قامت وكالة حماية البيئة الأمريكية في عام 2008 بخفض قيمة الحياة البشرية من 8 ملايين دولار إلى 7 ملايين دولار، واجه هذا القرار موجة من الاستياء والرفض.
– يُعبّر وينتر عن هذا الاستياء بقوله لو وضعنا حياة إنسان واحد في كفة الميزان، وباقي العالم في الكفة الأخرى، لكان الميزان سيتّزن بالتساوي.
– تُعدّ “فرق المخاطر” بين وظيفتين و”علاوة الأجر” التي يتوقعها الفرد عند تولّي مهنة أكثر خطورة، أحد الطرق لقياس قيمة الحياة.
– على سبيل المثال، يفترض وينتر أنّ المهنة الأكثر خطورة تُفضي إلى وفاة إضافية واحدة لكل 10 آلاف عامل مقارنة بالمهنة الأقل خطورة، وأنّ العامل يتوقع أجراً إضافياً بقيمة 500 دولار سنوياً مقابل تعرّضه لمخاطر أكبر، وبالتالي، تبلغ “قيمة الحياة الإحصائية” 5 ملايين دولار.
– يشرح وينتر ذلك بقوله إنه بافتراض أنّ كل 10 آلاف عامل يحتاجون إلى 500 دولار لتحمّل المخاطر المتزايدة، فلدينا في هذه الحالة إجمالي 5 ملايين دولار يرغب العمال بدفعها مقابل تجنّب حالة وفاة واحدة في المتوسط من مجموعهم، إنّ اعتمادنا على ‘المتوسط’ هو ما يجعل هذا التقدير قيمة لحياة إحصائية”.
– تتفاوت تقديرات قيمة الحياة بين 4 ملايين دولار و10 ملايين دولار. بينما يرى المبتدئون أنّ من الحكمة إنقاذ حياة شخص واحد مهما كانت التكلفة، تُقدّر الوكالات الحكومية فعالية الأنظمة من خلال مقارنة قيمة الحياة بتكلفة إنقاذها.
منافع التجارة: خلايا مور مثالاً
– يُؤمن وينتر بمنافع التجارة كحلّ لمختلف المشكلات، ولنأخذ مثال قضية “مور ضد حكام جامعة كاليفورنيا” التي عُرضت على المحكمة العليا في كاليفورنيا عام 1990.
– كان المدعي جون مور مريضًا بالسرطان، ونصحه طبيبه، وهو باحث في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، بإجراء عملية استئصال الطحال.
– قام الطبيب -دون علم مور- باستخدام خلايا الطحال لإنشاء خط خلايا يُستخدم في الأبحاث، ممّا حقق أرباحًا بمليارات الدولارات، اكتشف مور لاحقًا قيمة خلاياه، فرفع دعوى قضائية للمطالبة بحصة من الأرباح.
– يُجادل وينتر بأنّ القضية الاقتصادية الأساسية تتمحور حول تحديد من لديه أعلى قيمة للخلايا، وبما أنّ الطبيب هو من قام بإنشاء خط الخلية، فهو يستحقّ الحصول على جزء من الأرباح.
– يُضيف وينتر أنّ تحديد حقوق الملكية بوضوح، سواءً للمريض أو للطبيب، سيضمن حصول المجتمع على خط الخلية الثمين.
مناقشة حلول السوق: زراعة الكلى كمثال
– يُشير الكاتب إلى معاناة 90 ألف مريض ينتظرون عمليات زرع الكلى/ ويُقترح حلًّا قائمًا على مبدأ “منافع التجارة”، وهو إنشاء سوق للكلى.
– يُؤمن الكاتب بأنّ إنشاء مثل هذا السوق سيُؤدي إلى ارتفاع أسعار الكلى، ممّا سيُشجّع المزيد من الأشخاص على التبرّع بها، وبالتالي، سيستفيد كلّ من المرضى والجهات المانحة.
– ومع ذلك، يُشير الكاتب إلى عدم وجود سوق للكلى حاليًا، ممّا يطرح تحديًا كبيرًا أمام تطبيق هذا الحلّ.
– أحد الانتقادات الموجهة لفكرة سوق الأعضاء هو أنها قد تُفيد الأغنياء على حساب الفقراء. لكن هذا الاعتراض ضعيف، فقد قدّر الخبير الاقتصادي غاري بيكر “سعر المقاصة السوقية للكلية” بحوالي 15 ألف دولار.
– وبما أنّ تكلفة جراحة زرع الأعضاء أعلى بكثير، فهذا يعني أنّ عددًا قليلًا من المرضى سيكونون قادرين على دفع تكلفة الجراحة بينما لا يستطيعون شراء كلية.
– وعلاوة على ذلك، فمقابل كل مريض غني يحصل على كلية “مجانية” من خلال شرائها من السوق، سينتظر مريض فقير لفترة أطول.
– ويهدم وينتر حجة معارضي السوق القائمة على أنّ البائعين سيكونون في الغالب من الفقراء، ويتساءل ألا يستفيد الفقراء أيضًا من بيع كُلاهم”.
– إنّ العائق الأكبر أمام إنشاء سوق للكلى أو غيرها من الأعضاء البشرية هو “الاشمئزاز” الذي يصفه الكاتب بـ “الغضب الأخلاقي”، ويخصص الكاتب فصلًا كاملًا لمناقشة الحلول للتغلب على هذا الشعور.
الخلاصة:
– فضلنا التعمق في عدد قليل من القضايا بدلاً من معالجة العديد منها بشكل سطحي، على الرغم من ذلك، يقدم تحليل وينتر نظرة أعمق بكثير مما تقدمه هذه القراءة للكتاب.