كيف يقود التفاؤل المفرط المتداولين للخسارة في سوق الأسهم؟
إذا طلب منك أحدهم إجراء عملية حسابية بينما يلاحقك كلب شرس، أو دعاك آخر لتذكر أسماء معلميك في المرحلة الابتدائية أثناء احتفالك بمناسبة سعيدة بالنسبة لك، بدءًا من ولادة ابنك أو حتى فوز فريقك المفضل ببطولة غالية، هل سيمكنك فعل تلك المهام بسهولة؟
الإجابة هي غالبًا لا، لأن الخوف والشعور بالسعادة أو النشوة يؤثران على قدرة الشخص على التفكير وإصدار الأحكام الصحيحة، وما يهمله كثيرون أن سوق الأسهم هو من أكثر الأماكن التي تشهد تأثيرات لتلك الأفكار والهرمونات على المتداولين بشكل يؤثر سلبًا على قدرتهم في الحكم على الأمور.
مثال سلبي نادر
ولعل الحالة الأشهر لهيمنة مشاعر “النشوة” على مستثمر باستمرار هي المستثمر الكوري “بيل هوانج”، الذي يعد مثالاً صارخًا لهيمنة العواطف على قرارات المتداولين.
ففي واحدة من أكبر الخسائر الفردية في تاريخ الأسواق، خسر “هوانج” 20 مليار دولار في يومين فقط عام 2021، وذلك بسبب رهان خاطئ على هبوط الأسهم، ولم تكن هذه المرة الأولى التي يواجه فيها هذا المتداول كارثة مالية مشابهة.
ففي عام 2013، خسر مئات الملايين، وفي عام 2008 فقد ثروته بالكامل، ورغم هذه التجارب المريرة، استمر “هوانج” في المخاطرة بأموال طائلة، مدفوعًا باعتقاد لا يتغير بأن وسعه ربح كل شيء سريعًا.
ويقول “هوانج” عن ذلك إنه اعتاد الربح والخسارة في سوق الأسهم، وإن تلك هي طبيعة الأمور، وعلى الرغم من أن الجملة تبدو صحيحة للوهلة الأولى، ولكن لن يكون منطقياً أو معتاداً خسارة 20 مليار دولار في يوم .
ولذلك فمن اللافت أن نرى نسب خسارة تتعدى 90% من رأس المال مع “هوانج” وفي المقابل نسب أرباح تتعدى 600% في صفقة واحدة، ويمكن القول إن نظراءه يتعاملون مع سوق الأسهم كما لو كانت حقل تجارب للحظ أو كما يصف البعض بأنهم “يرمون النرد” ولا يحللون السوق.
والشاهد أنه يندُر إيجاد حالات شبيهة بحالة “هوانج” بين كبار المتداولين، نظرًا لأن التعامل بهذه الطريقة في إدارة الأسهم، اعتمادًا على التفاؤل المفرط وانتظار ضربات الحظ، لا يؤدي إلى “صناعة” متداول كبير ولكن يُبقي المتداول صغيرًا إن لم يؤد لخروجه كليةً من السوق.
“ليس بوسع الأمور أن تسوء أكثر من ذلك”
وتشير الدراسات إلى أن نسبة 40-60% من المستثمرين، دفعت بأموالها أو أبقتها في سهم خاسر تحت شعار “أنه ليس بوسع الأمور أن تكون أسوأ” وذلك دون دراسة وافية تتأكد بالفعل من أن الأمور في سبيلها للتحسن وليس مجرد شعار يرفعه المتداول لدعم معنوياته.
وبسبب هذه النشوة أو التفاؤل المفرط، يشهد سوق الأسهم ظاهرة شائعة تتمثل فيما يسمى بـ”التيار غير الرشيد”، والذي ينبع من خطأ شائع يرتكبه كثير من المتداولين يتعلق هذا الخطأ بمعاملة الأرباح المحققة على أنها “أموال سهلة” لا تخضع لنفس مستوى التحليل والتقييم الذي يخضع له رأس المال الأصلي، ويعتقدون أنها في سبيلها لحصد الأرباح دون سبب منطقي.
فعندما يشتري متداول سهمًا بربح، يميل إلى التمسك به حتى لو بدأت المؤشرات تشير إلى تراجع قيمته يعتقد هذا المتداول أن أي خسارة يتحملها في هذا السهم ستكون من أرباحه السابقة، وليس من رأس ماله الأصلي.
هذا التفكير الخاطئ يدفعه إلى تجاهل التحذيرات المبكرة، والاحتفاظ بالسهم حتى يصل إلى مستوى شرائه الأصلي أو أقل منه.
هذه الظاهرة ليست حديثة العهد، بل تتكرر عبر التاريخ، ففي العديد من الأزمات المالية، مثل أزمة “سوق التوليب”، كان هذا السلوك هو أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم الأزمة ،عندما يبدأ المتداولون في بيع أسهمهم بأي سعر، فإن ذلك يخلق حالة من الذعر الجماعي، مما يؤدي إلى انهيار أكبر في السوق.
والحقيقة أن أكثر من 70% من المتعاملين في الأسواق الأمريكية على سبيل المثال يفتقرون إلى عناصر “أساسية” في تقييم الشركات، وهؤلاء مؤثرون وبشدة -ويتزايدون مع ارتفاع السوق- في أسعار الأسهم من خلال طلبات الشراء، وبالتالي يزيدون من تأثير حالة التفاؤل المفرط أو النشوة في السوق.
“إنفيديا” ونشوة الأسواق
والشاهد أن حالة التفاؤل أو “النشوة” هذه تسيطر أيضا على المحللين وعلى السماسرة، ومن ذلك تحليل أجرته شبكة “سي.إن.إن” لسهم “إنفيديا” وشارك فيه 61 محلل أسهم اعتبر 92% منهم أنه يجب شراء هذا السهم وأنه فرصة شراء، ورأى 8% أنه يجب الاحتفاظ به، أي أنه لا يجب شراؤه إن لم تكن تحمله بالفعل ولكن لا يجب بيعه.
ولم ينصح أي محلل ببيع السهم، أي أن نسبة المطالبين ببيعه كانت 0%، وذلك بسبب حالة التفاؤل الكبيرة المرتبطة بالسهم في السوق الأمريكي وعالميًا بشكل عام بعد أن أصبح مركز اهتمام كثيرين في السوق في ظل القفزات التي حققها خلال الفترة الأخيرة.
فمنذ منتصف أغسطس 1999 وحتى منتصف أغسطس 2024 أي على مدار 5 سنوات ارتفع سعر سهم الشركة قرابة 3000% بينما شهد ارتفاعاً تجاوز 165% في الفترة بين منتصف أغسطس 2023 وأغسطس 2024.
أدى هذا لعمل شكل من أشكال الاعتقاد بأن سهم “إنفيديا” يبدو محصنًا ضد الخسارة على الأقل في المدى المنظور، وأنه وعلى الرغم من صعوده اللافت الفترة الماضية ما زال سهمًا مقومًا بأقل من قيمته بالتالي يستحق الشراء رهانًا على النمو وليس على المضاربة، أي أن الشراء للاحتفاظ وليس للبيع خلال فترات قصيرة.
ويناقض هذا حقائق متعلقة بالشركة، ولعل أبرزها أن مضاعف ربحيتها وصل في منتصف أغسطس 2024 إلى قرابة 73، بينما لا يتعدى هذا الرقم في شركة عملاقة تعمل في نفس القطاع ولكنها أكثر استقرارًا مثل “مايكروسوفت” 35 أي أن مضاعف ربحية “إنفيديا” أكبر من ضعف مثيله لـ”مايكروسوفت”.
وبتوقف سريع فإن مضاعف الربحية المقبول والطبيعي في الشركات التقليدية -والتي لا تراهن على نمو أو طفرات في التكنولوجيا يكون 12-15، وفي ظل مضاعف ربحية يبلغ 75 فإن رهان الأسواق في حالة إنفيديا هنا -إن كان الرهان منطقيًا- هو تضاعف الأرباح 5 مرات على الأقل بفعل التكنولوجيا في الفترة المنظورة لكي يبقى سعر السهم منطقيًا (بقسمة 75 كمضاعف ربحية الشركة على 15 المضاعف المقابل في الشركات الأخرى).
ولذلك فمن الغريب ألا ينجذب ولو محللا واحدا إلى بعض التقييمات -المتحفظة أو المتشائمة أو الواقعية- التي تشير إلى أن السوق الأمريكي بانتظار تراجع كبير وأن الاثنين الأسود في أغسطس 2024 ربما يكون جرس إنذار للمستقبل وليس مجرد حادثة منفصلة لن تتكرر.
التراكم وليس السرعة
وهنا نعود إلى المفهوم الذي قدمه رئيس الاحتياطي الأمريكي الأسبق “آلان جرينسبان” حول “الوفرة غير العقلانية” والتي أشار فيها إلى أن استمرار صعود الأسواق بسبب “الطمع والنشوة فحسب دون دعم ذلك الصعود بالحقائق سيؤدي إلى انهيارات أكبر في السوق.
والشاهد أن هذا المصطلح ظهر عام 1995 ولكنه لم يمنع انهيارات لاحقة أبرزها انهيار السوق الأسيوي عام 1999 ثم فقاعة دوت كوم بداية الألفية الجديدة -والتي يُشبهها كثيرون بالوضع حاليًا في السوق الأمريكي- ثم الأزمة المالية العالمي وسوق كورونا التصحيحي وغير ذلك.
وما يؤكد تقديرات “جرينسبان” ما كشفته دراسة لـ”ريسيرش جيت” بأن 92% من المتعاملين في سوق الأسهم في أوقات السوق الصاعدة -الثيران- لا يتحسّبون لانعكاس المنحنى بل يظلون يدفعون بما لديهم من سيولة باستمرار في الأسواق طمعًا في المزيد من المكاسب ورهانًا على استمرارها في الصعود.
ولأن هذا النهج غالبًا ما ينتهي بالخسارة، مثلما عانى “هوانج”، فعلينا تذكر نصيحة “جون بوغل” المعروف بعراب الاستثمار في الصناديق بضرورة الهدوء والدراسة والرهان على تراكم رأس المال وليس على الربح الكبير في وقت قصير، فذلك فقط هو النهج الذي يقود المستثمر للنجاح.