كيف تحولت الولايات المتحدة إلى أرض اللامساواة اقتصاديا؟
يعتمد الكاتب “أنجوس ديتون” في كتابه الجديد “الاقتصاد في أمريكا – خبير اقتصاد مهاجر يستكشف أرض اللامساواة” على كتاباته التي لطالما كانت موجهة إلى قطاع عريض من العامة على مر السنين، والتي تسلط الضوء على مظاهر عدم المساواة في أمريكا
يقول “ديتون” إنه بالمراقبة المستمرة لحالة عدم المساواة، فإنه يكتب عن المواضيع المتعلقة بالرعاية الصحية، وأنظمة معاشات التقاعد، وأسواق الأسهم، ومظاهر الفقر داخل البلاد وخارجها
وهو يطرح وجهة نظره بوصفه خبير اقتصاد مهاجراً نشأ في ظل تقاليد علم الاقتصاد في كامبردج (إنجلترا) قبل الانتقال إلى الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي وحصوله على جائزة نوبل في عام 2015، من بين جوائز أخرى
ولعل جلّ تركيز “ديتون” كان منصبًا على تزايد حالة عدم المساواة في الدخول، ووجود فجوة كبيرة بين “النُّخَب” وعامة الناس
فضلًا عن تدهور النتائج الاجتماعية بين أولئك الذين يتخلفون عن الركب بسبب العولمة والسياسة والتقدم التكنولوجي، بما في ذلك ارتفاع معدلات الوفاة بين العمال الأقل تعليمًا، التي وصفتها آن كيس و”ديتون” في كتاب سابق بأنها “وفيات اليأس”
وهو يرى في الاهتمام غير الكافي بتغيّر المناخ مظهراً من مظاهر عدم المساواة لأنه يغض الطرف عن رفاهية الأجيال القادمة
ويجادل “ديتون” بأنه ينبغي لمهنة الاقتصاد أن توسع المنظور الذي ترى من خلاله الرفاهية، على النحو الذي قصده آدم سميث، إلى ما هو أبعد من الدخل والثروة ليشمل نواحي مهمة من الرخاء الإنساني، مثل العمل الهادف، والأسرة، والمجتمع
كما ينبغي لخبراء الاقتصاد تحقيق التوازن بين الميل إلى التركيز على الكفاءة وإيلاء مزيد من الاهتمام للمساواة، فضلًا عن قدرة الحكومة على المساعدة في التصدي لمظاهر عدم المساواة
وفيما يتعلق بالدور المناسب للسياسة العامة، يؤكد المؤلف على أهمية الفكرة التي طرحها كينيث أرو بأن الأسواق يجب أن تكون تنافسية – وليست “حرة” فحسب – لتحقيق نتائج مقبولة اجتماعيا
ففي غياب المنافسة، لنقل بسبب ما تُحدثه الاحتكارات أو احتكارات الشراء من زيادة في الأسعار أو تخفيض في الأجور بشكل مصطنع، يمكن لنتائج السوق أن تعود بالنفع باستمرار على شرائح معينة من السكان
ويذكر “ديتون” أن التكيف مع الصدمات يُعد في الواقع أصعب مما يفترضه الحوار بشأن السياسات في معظم الأحيان
وهو يسلط الضوء على مظاهر عدم المساواة التعليمية والعرقية بوصفهما سِمتيْـن صارختيْـن للمشهد الاجتماعي العام
فالأشخاص الذين يفقدون وظائفهم بسبب عوامل عالمية أو بفعل التكنولوجيا غالبًا ما يكافحون من أجل العثور على عمل بسبب شرط الحصول على درجات جامعية والتكلفة الباهظة التي تمثل عائقًا أمام السكن في المدن الكبرى
وفي الوقت نفسه، وفي ظل تهالك شبكة الأمان الاجتماعي، هناك صعوبات أكبر تواجه الأشخاص الفقراء وذوي مستويات التعليم الأقل نسبيًا
وللتصدي لمظاهر عدم المساواة، يناشد “ديتون” صنّاع السياسات على ألا يقتصر تركيزهم على إعادة التوزيع فحسب – والتي لها حدود مفاهيمية وعملية – وإنما على عوامل “التوزيع المسبق”، مثل التعليم والصحة، التي تؤثر على الكيفية التي تحدد بها الأسواق توزيع الدخل قبل اقتطاع الضرائب والتحويلات
ففي بعض الأحوال، يمكن لزيادة الحد الأدنى للأجور تعزيز رفاهية العمال منخفضي الدخل بدون تقليل حجم العمالة
ويرى “ديتون” أنه توجد حاجة مُلحة إلى تدخل الحكومة لتخفيض تكاليف الرعاية الصحية ومعدلات الفقر، ولضمان مزايا أكثر موثوقية للتقاعد
أما في قطاع الرعاية الصحية، فتوجد عوامل مثل عدم اتساق المعلومات عن الأسعار والإجراءات المتبعة التي تعيق المنافسة
ويوضح الكاتب أن الإفراط في الاعتماد على قوى السوق في هذه الأحوال يؤدي إلى تفاقم عدم المساواة في الحصول على الرعاية الصحية وزيادة أسعارها وتدني جودتها مقارنة بالبلدان الغنية الأخرى
ويفضل “ديتون” التمويل العمومي عن التمويل الفردي وتوفير معاشات تقاعدية بسبب ارتفاع مخاطر السوق، إذ إن معظم الأشخاص يفتقرون إلى الأموال الكافية لمواجهة المخاطر، أما أولئك الذين يخطئون في حساب المخاطر أو يعانون من حظ عاثر فتكون العواقب كارثية بالنسبة لهم
وهو يؤكد أنه ينبغي للحكومات إيلاء اهتمام لمكافحة الفقر في الداخل – لأن عليها التزام خاص أمام مواطنيها الذين يدفعون الضرائب ويعملون ويخدمونها – والفقر في الخارج، على الرغم من أنه لا يرى في المساعدات حلا دائما
وقد يرى البعض أن أوجه انتقادات الاقتصاد شاملة وأنها تغفل المرونة الفكرية والسياسية التي تطورت أثناء الأزمة المالية العالمية وفي أعقابها، بما في ذلك من جانب صندوق النقد الدولي عندما كان أوليفييه بلانشار مستشارا اقتصاديا للصندوق
وإجمالًا، يُعد الكتاب غنيًا بالمعلومات بما يتضمنه من مجموعة متنوّعة من الموضوعات، وجذَّابا؛ نظرا لما يتمتع به “ديتون” من حجّة قوية وخبرات ثرية، وممتعًا؛ بفضل موهبته في الكتابة