في الأرجنتين .. البيزو يحتفي بتدابير التقشف وسط ركود الاقتصاد ومعاناة الفقراء
خلال حملته الانتخابية قبل بضعة أشهر، تعهد رئيس الأرجنتين الحالي “خافيير مايلي” بإلغاء العملة المحلية مع تراجعها الحاد على مدى السنوات الماضية، والتحول للدولار الأمريكي بدلاً منها.
لكن بعد توليه المنصب بحوالي أربعة أشهر، تشهد البيزو الأرجنتينية مكاسب قوية دفعتها لتصدر قائمة الأعلى صعودًا بين عملات العالم منذ بداية 2024، رغم استمرار التضخم الحاد والركود الاقتصادي.
تعافٍ سريع للعملة
– لم ينجح البيزو الأرجنتيني في وقف موجة الهبوط اليومي فحسب، لكنه ارتفع بشكل حاد في أحد أسواق الصرف الأجنبي الرئيسية.
– ارتفعت عملة الأرجنتين بنسبة 25% أمام الدولار الأمريكي خلال الثلاثة أشهر الماضية في السوق المعروف باسم المقايضة الممتازة (blue-chip swap)، وهو المستخدم من قبل العديد من المستثمرين والشركات.
– كانت وتيرة صعود البيزو أكثر من المكاسب التي حققتها أي من العملات الـ 148 التي تتبعها وكالة بلومبرج في الأشهر الثلاثة الماضية مقابل الدولار الأمريكي.
– يعتبر هذا الصعود القوي أمرًا نادرًا بالنظر إلى أن العملة الأرجنتينية كانت تشهد حالة من السقوط الحر المستمر، حيث كان أقل انخفاض سنوي لها في العقد الماضي حوالي 15%.
– توجد العديد من أسواق الصرف الأجنبي الرئيسية في الأرجنتين، بفعل شبكة من القواعد المتشابكة في البلاد.
– في السوق الرسمية للعملة، حيث تتم معظم معاملات الاستيراد والتصدير الكبرى، فإن البيزو يشهد حالة من الاستقرار إلى حد كبير، في نظام شديد التنظيم مصمم لتخفيف التقلبات في العملة.
تدابير إصلاح قاسية
– كان تعافي العملة المحلية في الأرجنتين مدعومًا بشكل كبير بإجراءات صارمة اتخذها الرئيس الجديد، وهو ما يبدو مثيرًا للسخرية بالنظر إلى أن “مايلي” نفسه اعتبر خلال حملته الانتخابية أن البيزو “بلا فائدة ويجب إلغاؤه بالكامل”.
– انتهج الرئيس “خافيير مايلي” خطة لكبح جماح التضخم والإنفاق الحكومي الممول بالعجز، معتبرًا أن الأخير مسؤول عن كل مشاكل الأرجنتين خلال السنوات الماضية.
– فرض “مايلي” ما وصفه بـ”أكبر تخفيضات للميزانية في تاريخ البشرية”، حيث تعادل نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
– قدر مسؤولون في البنك المركزي الأرجنتيني أن خفض الإنفاق الحكومي بعد تولي “مايلي” لمنصبه يعتبر أكبر من 90% من جميع الإجراءات المماثلة التي تم تنفيذها حول العالم على مدى العقود الماضية.
– اتجهت الأرجنتين تحت قيادة الحكومة الجديدة لتنفيذ إجراءات تقشفية صارمة، ما يشمل خفض الإنفاق الرأسمالي بنحو 85% في الربع الأول من هذا العام، وإلغاء الدعم الحكومي للكثير من السلع والخدمات.
– كما اتخذ الرئيس الجديد خطوات مؤلمة، لكنها ضرورية من وجهة نظره لتحرير الاقتصاد، ما يشمل إلغاء بعض ضوابط الأسعار التي تسببت في تباطؤ التضخم بشكل مصطنع.
– سمح “مايلي” أيضًا بهبوط سعر الصرف الرسمي نحو مستويات سوق المقايضة الممتازة، حيث خفض سعر البيزو بحوالي 54% في ديسمبر الماضي بعد أيام من توليه المنصب.
– ظهرت الآثار الإيجابية لهذه التدابير الصارمة عبر ارتفاع أسعار السندات السيادية المقومة بالدولار بنحو الضعف، مع تسجيل الأرجنتين أول فائض مالي في الموازنة منذ 2008 خلال الربع الأول من هذا العام.
استعادة الثقة في العملة
نجحت إجراءات الحكومة الجديدة في طمأنة الأرجنتينيين والمستثمرين بشأن العملة المحلية، ما قلص الطلب على الدولار الأمريكي ورفع أسعار الأسهم والسندات والبيزو.
– تمكن البنك المركزي في الأرجنتين من الدخول إلى سوق الصرف بشكل يومي لشراء الدولارات وتجديد احتياطيات العملة الصعبة المنخفضة للغاية بالفعل.
– كما استفادت العملة من ترك القيود المفروضة على التعاملات والتي كانت مطبقة بالفعل من النظام السياسي السابق، رغم أن هذه القيود لم تنجح في وقف انهيار البيزو في ظل الإدارة السابقة.
– لكن الأمر المختلف حالياً هو أن الأرجنتينيين الآن لديهم ثقة أكبر في العملة المحلية، ما يحد من الطلب على الدولار باعتباره ملاذا آمنا.
– سمحت الثقة المستعادة في العملة المحلية للبنك المركزي الأرجنتيني بخفض معدلات الفائدة للمرة الرابعة منذ تولي “مايلي” منصبه قبل أربعة أشهر.
– خفض البنك المركزي الأرجنتيني معدلات الفائدة إلى 60% مقارنة بمستويات 126% في ديسمبر الماضي قبل انتخاب الرئيس الحالي للبلاد.
– الأمر الآخر، هو أنه مع تطبيق تخفيضات الميزانية، لم يعد البنك المركزي يمول الإنفاق الحكومي بشكل مباشر عن طريق طباعة النقود، ما وضع نهاية لمصدر ضغط سابق على العملة.
– قال “كارلوس بيريز” مدير شركة “فونداسيون كابيتال” للاستشارات إن السياسة الاقتصادية في الأرجنتين بدأت تصبح أكثر عقلانية مع الحكومة الجديدة.
– ذكر “بيريز” أن العديد من الأشخاص الذين حولوا أموالهم الفائضة إلى الدولار سابقًا، يضطرون لبيع تلك الدولارات حالياً من أجل الحصول على البيزو الضروري لدفع ثمن السلع اليومية، خاصة مع تسارع التضخم.
الوجه الآخر للإصلاح
– رغم إيجابية وضع حد لهبوط العملة في الأرجنتين، فإن هناك تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد والمواطنين من تلك التدابير.
– على جانب الاقتصاد الكلي، تسبب الخفض الحاد للإنفاق وتراجع الطلب الإجمالي في البلاد في دخول الاقتصاد في حالة ركود.
– أشارت بيانات إلى أن اقتصاد الأرجنتين انكمش في أول شهرين من العام الجاري بنحو 3.6% على أساس سنوي.
– يتوقع صندوق النقد الدولي انكماش اقتصاد الأرجنتين بنحو 2.8% في العام الجاري، وهي نفس توقعات الفريق الاقتصادي للرئيس الأرجنتيني، بعد انكماش في 2023 بحوالي 1.6%.
– على جانب موازٍ، ترتفع مستويات الفقر في الأرجنتين، مع الركود الاقتصادي وتراجع النشاط والإنتاج والاستهلاك في البلاد نتيجة تدابير التشقف.
– انخفض متوسط الأجر الحقيقي للعمال في الأرجنتين بنحو 19% منذ ديسمبر الماضي ليسجل 619 ألف بيزو (708 دولارات)، وهو ما يقل عن خط الفقر في البلاد.
– كما تراجعت القوى الشرائية للمواطنين في الأرجنتين، حيث كشفت بيانات أن مبيعات المتاجر الكبرى وصغار بائعي التجزئة تراجعت بنحو 11.4% و25.5% على الترتيب.
– من جانبها، علقت المصانع في الأرجنتين عمليات تعيين الموظفين مع خفض الإنتاج للتعامل مع هبوط الطلب، بالإضافة إلى قيام “مايلي” بوقف 88% من المشروعات العامة في البلاد، وهو ما كان يمثل مصدرًا كبيرًا للدخل بالنسبة للعمال والشركات على حد سواء.
هل تنجح الإصلاحات؟
– يرى اقتصاديون أن الأرجنتين تسير في الطريق الصحيح للسيطرة على التضخم وإصلاح الاقتصاد، مع انتهاء قريب للتداعيات السلبية لخطط ضبط المالية العامة.
– تراهن الحكومة الأرجنتينية على تجاوز التداعيات السلبية للإصلاحات سريعًا، مع استمرار التضخم الشهري في التباطؤ وتعافي الاقتصاد.
– أشار الرئيس مؤخرًا إلى أن الأجور بدأت بالفعل في تجاوز مستويات التضخم، معتبرًا أن المعركة ضد الارتفاع الحاد للأسعار بدأت في إظهار بعض النتائج الإيجابية.
– اعتبر “مايلي” أن هناك بعض الإشارات التي ظهرت خلال الأسبوعين الماضيين حول تراجع أسعار الغذاء والمشروبات، قائلاً: “من الواضح أن الأرجنتين تشهد حالة من التحسن”.
– من جانبه، يتوقع صندوق النقد الدولي تحول اقتصاد الأرجنتين من الانكماش هذا العام إلى النمو بنحو 5% في عام 2025.
– يرى “دانتي سيكا” مؤسس شركة “أبيسب” للاستشارات الاقتصادية أن الأسوأ ربما قد انتهى الآن، متوقعًا الوصول إلى قاع الركود خلال أبريل أو مايو على الأكثر، قبل أن يبدأ التعافي في النصف الثاني من هذا العام.
– لكن على الجانب الآخر، تواجه حزمة الإصلاح الاقتصادي للرئيس الجديد مقاومة من جانب البرلمان، في إشارة إلى هشاشة الخطة الاقتصادية من الناحية السياسية والشعبية أيضًا.
– تخرج تظاهرات متكررة في مدن الأرجنتين للاحتجاج على السياسات الاقتصادية الحالية والتي تؤثر سلبًا على حياة المواطنين وتزيد عدد الفقراء مع ارتفاع الأسعار وخفض الدعم.
– يعتقد محللون أن السيطرة على التضخم ستكون عاملًا أساسياً في مدى قدرة الأرجنتينيين على تحمل تداعيات الإجراءات الحالية.
– توقع “مايلي” تباطؤ التضخم الشهري في الأرجنتين دون 10% في شهر أبريل الماضي، بعد أن تباطأ للشهر الثالث على التوالي في مارس عند 11%، متفوقًا على توقعات المحللين.
– بينما أشار مكتب وزير السياسة الاقتصادية والنائب الأول لوزير الاقتصاد “خواكين كوتاني” إلى أن التضخم قد يتباطأ إلى 3.8% بحلول سبتمبر المقبل، وهو ما يتفوق على توقعات المحللين في مسح صادر عن البنك المركزي بتسجيل 6.2%.
– لكن على أساس سنوي، يشهد التضخم في الأرجنتين تسارعًا حادًا، حيث سجل 287.9% في مارس، وهو مستوى غير مسبوق منذ فترة التضخم الجامح في البلاد خلال تسعينيات القرن الماضي.
– يخشى بعض المحللين من صعوبة تحقيق المزيد من الفوائض المالية والتي تعد أمرًا أساسياً لثقة الأسواق في الحكومة الأرجنتينية الحالية، مع تراجع الدخل الضريبي جراء الركود الاقتصادي.
– قال “بابلو واهرين” المحلل في “أوبزرفوتري فور إيكونومي” إنه إذا أرادت الحكومة الحفاظ على الأداء المالي، فسيتعين عليها الاستمرار في خفض الإنفاق، لكن إذا استمر الركود، فإن ذلك سيؤدي إلى خفض الدخل الضريبي.
– وصف المحلل الأمر بالنسبة للحكومة الأرجنتينية بأنه “يمكن أن يصبح فخاً يصعب الخروج منه”.