فضلا فكر ثانية .. هل تعاني من عقل سريع التفكير في سوق الأسهم؟
في عام 2011 قدم دكتور “دانيال كانيمان”، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، كتاب “التفكير السريع والبطيء”، والذي شكل علامة مهمة في كيفية اتخاذ الإنسان لقراراته حيث اعتبر “كانيمان” أن للإنسان نظامي تفكير، الأول سريع وتلقائي والثاني بطيء وتحليلي.
وبشكل تفصيلي يمكن القول إن النظام الأول يتسم بسرعة اتخاذ القرارات، والتلقائية وإنه عاطفي، حدسي، لا يتطلب جهدًا كبيرًا، أما النظام الثاني فهو بطيء، متعمد، منطقي، تحليلي، يتطلب جهدًا ذهنيًا كبيرًا.
التفكير السريع “مريح” ولكن
ويرى “كانيمان” أن أغلب القرارات يتم اتخاذها باستخدام النظام الأول، لأنه أسهل، كما أنه يشعرنا براحة أكثر لأنه يتفق مع تحيزاتنا العاطفية، وبالتالي لا يضطرنا لمحاولة تغيير الكثير من الأفكار.
وعلى ذلك تظهر كافة التحيزات المعرفية أو المنطقية في أسلوب التفكير الأول، والذي يسيطر على تفكير كثير من المتعاملين في سوق الأسهم، ولعل أبرزهم تحيز الثقة المفرطة وتحيز تجنب الخسارة، وتحيز الالتحاق بالقطيع والتحيز التأكيدي وغير ذلك.
وعلى سبيل المثال فإن تحيزات الثقة المفرطة تؤذي الكثير من المتعاملين في أسواق الأسهم ومن ذلك دراسة أفادت بأن 70-80% من المتعاملين في السوق يرون أنهم “أقدر من غيرهم” على تحليل الأسواق والتنبؤ باتجاهها وأن استنتاجهم إن لم يصح فإن ذلك يكون بسبب أخطاء الآخرين.
ومن بين آثار الثقة وتحيزاتها ما شهدته الفترة بين عامي 2020 و2022 من ظاهرة غريبة اجتاحت أسواق المال، تمثلت في هوس جماعي بأسهم الشركات الصغيرة والمتقلبة “أسهم الميم”، حيث تميزت هذه الأسهم بارتفاعها الصاروخي المُستند بشكل أساسي إلى التضخيم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لا سيما منصة “ريديت”، بدلاً من تحليلها بناءً على أساسياتها المالية.
ساد الاعتقاد بين غالبية المتداولين، بنسبة وصلت إلى 90%، أن أسهم الميم تُمثل “فرصة شراء لا تُفوّت”. فقد اعتقدوا أنها رخيصة للغاية ولا يمكن أن تنخفض أكثر، وأن اتجاهها الوحيد هو الصعود، دفعهم ذلك إلى شراء هذه الأسهم بشكل مُكثف، مما أدى إلى ارتفاعها بشكل مُبالغ فيه.
لم تلبث الحقيقة أن تظهر لهؤلاء الواثقين والمعتمدين على “الحظ”، وعلى تحيزهم لاتجاه الغالبية أو ما يعرف بتحيز القطيع، فقد انهارت أسهم الميم بشكل كارثي، وخسر أكثر من 95% منها جميع المكاسب التي حققتها، تحولت هذه الأسهم إلى “منطقة مُحظورة” على المستثمرين الجادين، الذين باتوا يخشون من تكرار مثل هذه “الفقاعات” التي تتكون بسبب المضارِبة.
التفاؤل غير المنطقي
وهنا يجب التنبه إلى أن “كانيمان” حذر في كتابه بشدة من “سلوك القطيع”، فاعتبر أنه أحد أخطر أشكال التفكير السريع، لأن الشخص يعتبر أن “قبوله” في محيطه” يأتي من قبوله لأفكار بعينها وتبنيه لها، وقد تفاقمت هذه الظاهرة في سوق الأسهم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت مصدرًا رئيسيًا للمعلومات المالية بالنسبة للكثيرين.
كما أن واحدا من الجوانب الأخرى التي يشير إليها “كانيمان” في كتابه هو تأثير التفاؤل الزائد على قراراتنا الاستثمارية، فغالبًا ما تكون لدينا رؤية غير واقعية عن قدراتنا واحتمالات نمو ثرواتنا، ويعتقد “كانيمان” أن التفاؤل مفيد في الحياة ولكنه ضار بشدة بالمستثمرين لا سيما إذا لم يكن مدعومًا بما يؤكده منطقيًا.
إنفيديا مثالا
ومن بين الشركات التي تأثرت بشدة بفكرة “الانحياز الجمعي” والعقل الذي يفكر بسرعة كانت شركة “إنفيديا”، التي ارتفعت قيمة أسهمها خلال عام منذ نهاية يونيو 2023 حتى نهاية يونيو 2024 بنسبة 191% من مستوى 42 دولارًا للسهم حتى مستوى 123 دولارًا للسهم.
واللافت هنا أن غالبية المستثمرين في الشركة انقادوا إليها بسبب الضجيج المثار حول الذكاء الاصطناعي، وبسبب الصعود اللافت لسهم الشركة، الذي أثار إجماعًا قبل عام أنه فرصة شراء وأنه مقيم بأقل من قيمته ولكن هل يستدعي الأمر ارتفاعه لقرابة 3 أضعاف من سعره الأولي قبل عام؟
وهنا أيضًا تأتي ظاهرة التحيز التأكيدي في صعود سهم “إنفيديا”، فمع المنحنى الصاعد بوضوح فإن قرابة 80% من المستثمرين لا يترقبون انخفاض هذا المنحنى، ومع شكل منحنى سهم الشركة الصاعد خلال العام الماضي جذب السهم كثيرا من المضاربين وراغبي الربح السريع.
ولذلك كان منطقيًا أن يفقد السهم قرابة 13% من قيمته في الأسبوع قبل الأخير من يونيو مع خروج الكثير من المضاربين من السهم وظهور تيار بيعي، استقر بعد قليل ليعاود السهم صعوده.
لكن المنحنى الهابط وإن كان سريعًا لفت إلى “هشاشة” صعود سهم الشركة واحتمال انقلابه لا سيما مع التحذيرات المتتالية والمتواصلة من “فقاعة” تشبه فقاعة “دوت كوم” لكنها تتعلق بالأسهم المرتبطة بالذكاء الاصطناعي هذه المرة.
وللتأكد من تأثر الأسواق السريع بعوامل لا تتعلق لا بتأثير التحليل الفني ولا الأساسي فقد أشارت التحليلات إلى أن انخفاض السهم السريع حدث بسبب 3 أسباب الأول بيع بعض المديرين التنفيذيين في الشركة لبعض حيازاتهم من أسهم الشركة والثاني تراجع شركات التكنولوجيا بشكل عام، والثالث سعي كثير من المتداولين لجني الأرباح بعد وصول السهم لقمة 135 دولارًا السعرية التي جعلت الشركة الأعلى كقيمة سوقية في العالم لفترة وجيزة.
عامل واحد مهم.. والبقية؟
ومن بين التحيز التأكيدي ما كشفته دراسة عن أن أكثر من 80% من المُتداولين يعتقدون أن عاملًا واحدًا فقط، مثل الحظ أو نسب النمو أو الرواج أو الإنفاق الاستهلاكي أو شكل المنحنى في السوق أو قوائم الشركة المالية أو حتى نصيحة من مُحلل، هو المسؤول عن الربحية ونمو السهم.
والشاهد أن المتداولين الناجحين يحللون عشرات العوامل -تشير بعض الدراسات إلى أنها لا تقل عن 12 عاملًا أساسيًا وضعفهم من العوامل المؤثرة- وبذلك يتلافون تأثير التحيز التأكيدي الذي يتولد من الاعتقاد بهيمنة عامل واحد على ما عداه من العوامل.
وربما يتولد هذا الاعتقاد لرفض مستثمر ما شراء أسهم شركة بسبب ديونها المرتفعة، لينخفض سعرها لاحقًا بالفعل، إلا أنه يحدث أثرًا سلبيًا في أسلوب تفكير المتداول بتركيزه على عنصر الديون دون ما عداه، ليهمل عناصر أخرى مهمة في التحليل الأساسي للشركة وللقطاع والاقتصاد الذي تنشط به.
النموذج المقابل
وفي مقابل تأثر كثيرين بهذه الانحيازات “الضارة” فإن متداولا بين الأشهر عبر التاريخ مثل “جيسي ليفرمور” اعتبر أنه لم يتم بعد رصد كافة جوانب سوق الأسهم، بينما يرى “وارين بافت” أنه لا يقوم بتحليل “علم الصواريخ” (في إشارة للصعوبة) وأن كل ما عليه القيام به تحليل مجموعة من العوامل الأساسية بشكل مستمر ثم البقاء هادئًأ أيا كانت المتغيرات.
وتفتح توضيحات “جيسي” و”بافت” الباب على التساؤل عن العقل البطيء ومدى نجاعته في السوق، ويمكن القول إن الأخير يدفع للبعد عن شراء الأسهم بناءً على حدس أو مشاعر بدلاً من تحليل دقيق، وعن التمسك بالأسهم الخاسرة على أمل أن ترتفع قيمتها مرة أخرى (دون دليل على ذلك)، وعن بيع الأسهم الرابحة خوفًا من خسارة المال الذي ربحه المتداول.
ولذلك فإن تصريحات “جيسي” و”بافت” ومعهم متداولون ذوو شهرة ونجاح كبيرين مثل “بوغل” و”لينش” وغيرهم دائما ما تطالب بالتفكير المتأني والثقة في التحليل الأساسي، وتجنب الهلع والطمع والاستثمارات السريعة، وتدعو للاستثمار بالتراكم التدريجي الذي يعتبره “بوغل” بمثابة “سحر” ينمي الثروات بينما تقضي المغامرات غير المحسوبة عليها.