سلاسل التوريد: أزمة عالمية تهدد الاستقرار الاقتصادي
في اقتصاد اليوم الذي تترابط أطرافه من حول العالم بصورة متزايدة، تصبح الشركات والمؤسسات عبر الصناعات كافة أكثر اعتمادًا على شبكات رقمية واسعة، وتمتد سلاسل التوريد الرقمية المعقدة عبر الدول والقارات.
سلسلة التوريد الرقمية مبنية على أساس قدرات تعتمد على شبكة الإنترنت، إذ تستخدم العديد من سلاسل التوريد مزيجًا من العمليات القائمة على الورق والعمليات التي تعتمد على تكنولوجيا المعلومات، وهدفها النهائي هو زيادة الكفاءة وتحقيق أرباح أعلى، وتقليل البصمة البيئية.
رغم أن التوسع الهائل والتنويع في سلسلة التوريد الرقمية مليئًا بالإمكانات، فإنه يطرح أيضًا تحديات تتعلق بالأمن والامتثال والحوكمة، ولمواجهة التحديات المتزايدة يجب على المنظمات جعل ممارسات وضوابط الأمن السيبراني القوية أولوية استراتيجية قصوى عبر سلاسل التوريد الرقمية الخاصة بها.
وبعدما أصبحت العولمة الاقتصادية تربط الشركات معًا بشكل لم يسبق له مثيل وبات أحد أكثر الجوانب المثيرة للقلق حاليًا هو التسلل المشبه به إلى سلاسل التوريد.
تزايد عدد الأجهزة المتصلة
مع انتشار إنترنت الأشياء – ما يعني ترابط الأشياء بشبكة الإنترنت – يتزايد عدد الأجهزة المتصلة في الأمور المدنية والعسكرية أيضًا بدءًا من المنازل الذكية ووصولاً إلى المعدات العسكرية، حتى أصبحت الحماية من التطفل صعبة للغاية في ظل العالم الافتراضي.
رغم فوائد التنوع والمرونة والكفاءة في التكلفة التي يوفرها ذلك النموذج إلا أن مشاركة البيانات والمحتوى الحساس عبر مجموعة متزايدة من القنوات والمنصات الرقمية يشكل خطرًا.
أظهرت نتائج استطلاع شركة البرمجيات “كايت وركس” لعام 2023 لشركات “فورتشن 2000” أن 90% من تلك الشركات تتبادل معلومات حساسة مع أكثر من ألف كيان خارجي بشكل منتظم.
ويكمن الخطر في إمكانية استغلال الثغرات الأمنية والتحكم في تلك الأجهزة عن بُعد، لأن الأجهزة اليومية مثل منظمات الحرارة الذكية وكاميرات المراقبة والمعدات الصناعية المترابطة قابلة للاستغلال.
ومع تزايد رقمنة سلاسل التوريد وترابطها، أصبحت أكثر عرضة لمجموعة من التهديدات السيبرانية، لا تشكل هذه التهديدات مخاطر على العمليات المباشرة للشركات فحسب، بل وأيضًا على الشبكة الواسعة من الموردين والمزودين والبائعين، والعملاء الذين يشكلون نظام سلسلة التوريد البيئي.
تتوقع الشركة الرائدة عالميًا بمجال الأبحاث والاستشارات “جارتنر” أنه بحلول عام 2025 ستتعرض 45% من المنظمات حول العالم لهجمات على سلاسل توريد البرامج الخاصة بها بزيادة ثلاثة أضعاف عن عام 2021.
الأجهزة الخاملة
يمكن لجهاز متصل أن يبدو أمانًا وغير ضار لكنه يحوي برمجيات خبيثة، ويظل خاملاً حتى يتم تشغيل وظيفته الحقيقية بواسطة أمر خارجي، وهو ما يمثل خطرًا كبيرًا يمكنه التأثير حتى على الشبكات المؤمنة بصورة جيدة.
ويتزايد الخطر إذا كانت الأجهزة تستخدم في أمور أكبر وأوسع نطاقًا مثل شبكات الطاقة وأنظمة المياه أو شبكات الإنترنت متصلة بالإنترنت، وبالتالي قد تخضع للتحكم عن بُعد.
وفي ظل إنترنت الأشياء تتزايد أهمية سلاسل التوريد، لأن الأجهزة يتم تجميعها عبر شركات تصنيع مختلفة ولكل منها مستوى مختلف من بروتوكولات الأمان، ويمكن أن تصبح عرضة للتلاعب أو تضمين مكونات ضارة، وبمجرد دخول جهاز مخترق إلى النظام البيئي يصبح من الصعب اكتشاف التهديد والقضاء عليه قبل حدوث أضرار جسيمة.
وفي لبنان، لم تغير الانفجارات الأخيرة لأجهزة النداء (البيجر) واللاسلكي – التي تم تعديلها لتشمل أجهزة متفجرة صغيرة – المشهد السياسي في الشرق الأوسط فقط، بل إنها هددت بإعادة تشكيل صناعة التكنولوجيا العالمية والعلاقات الدولية.
قبل هذا الحادث كانت أجهزة النداء تعتبر عمومًا أجهزة منخفضة المخاطر ونادرًا ما تخضع لتدابير أمنية صارمة كتلك التي تُطبق على تكنولوجيا الاتصالات الأكثر تقدمًا، ولم تخضع سلاسل توريدها للتدقيق مثل تلك الخاصة بالجوالات أو الحواسب.
ويثير مخاوف حول كيف يمكن إرسال إشارات إلكترونية أو أوامر إلى أجهزة من مسافة بعيدة لتشغيل وظائف مبرمجة مسبقًا، ويشكل هذا النوع من الهجمات مصدر قلق بالغ الأهمية في مشهد الأمن السيبراني وخاصة أن الأجهزة تُصنع عبر سلاسل توريد عالمية معقدة حيث يمكن المساس بأمنها في أي مرحلة.
كما يسلط الضوء على التعقيد المتزايد لتهديد الأمن السيبراني، وأهمية تأمين سلاسل التوريد، وأصبح العالم يواجه أزمة تراجع الثقة في سلاسل التوريد المتعلقة بالتكنولوجيا.
ورغم أنه تم استخدام الأجهزة المفخخة في أعمال التجسس على مدار سنوات، إلا أن نطاق وعنف الهجمات الأخيرة أثار مخاوف مسؤولين من أن تصبح سلاسل التوريد العالمية التي تساعد في إنتاج السلع الرخيصة وتدعم النمو العالمي بمثابة أسلحة.
الاعتماد على دول أخرى
منذ فترة طويلة، أقر مسؤولون أمريكيون باعتماد بلادهم بصورة مفرطة على الصين في مجموعة متنوعة من السلع والخدمات، وبالفعل بدأت الحكومة في السنوات الأخيرة في السعي لنقل بعض سلاسل التوريد الحيوية وخاصة تلك التي تمس الأمن القومي لداخل البلاد أو إلى دول صديقة.
ذكرت “ميلاني هارت” المسؤولة السابقة بوزارة الخارجية الأمر: عندما تعتمد على دول أخرى في الحصول على المدخلات أو التكنولوجيا الأساسية، فإنك تمنحها بابًا خلفيًا للوصول لكل ما تفعله.
وعلق السيناتور الأمريكي “سيث مولتون” قائلاً : سلاسل التوريد المعقدة وغير الشفافة بها فجوات يمكن استغلالها بسهولة شديدة، ونحن بحاجة إلى استراتيجية لسد تلك الفجوات عن طريق التعاون الوثيق مع حلفائنا.
ووفقًا لشركة تحليل البيانات “جوفيني”، خفضت البحرية الأمريكية في 2023 الإمدادات الصينية في سلاسل توريد “التقنيات الحيوية” بنحو 40%، بينما عززت القوات الجوية وغيرها من وكالات الدفاع اعتمادها على الصين.
أما عن الصين، فبدأت منذ فترة طويلة في تشجيع الابتكار المحلي من أجل تقليل اعتماد البلاد على التقنيات الأجنبية مثل محركات الطائرة وأنظمة تشغيل الحواسب، إلى جانب توجيه عدد من الوكالات الحكومية بمنع الموظفين من استخدام الآيفون – الذي تصنعه الأمريكية “آبل” – من الاستخدام في العمل.
لكن تظل المشكلة أن الهروب من الترابط المتبادل بين الدول والشركات أصبح صعبًا، مما سيدفع بعض الدول والمنظمات لإعادة تقييم شراكاتها التقنية وتعزيز التدقيق في سلاسل التوريد الخاصة بصرامة.