رحلة النمو: كيف تحولت سنغافورة إلى قوة اقتصادية بارزة؟
في ستينيات القرن العشرين، كانت سنغافورة دولة نامية، تعاني من تراجع اقتصادي حاد، إذ لم يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 320 دولارًا أمريكيًا، إلا أن هذه الدولة تمكنت من تحقيق قفزة نوعية هائلة.
– واليوم، تحتل سنغافورة مكانة مرموقة بين الاقتصادات العالمية، حيث ارتفع نصيب الفرد من دخلها القومي الإجمالي ليتخطى 141 ألف دولار أمريكي في 2023، مما يجعلها واحدة من أغنى دول العالم، وتعتبر هذه التحولات الاقتصادية المذهلة، التي حققتها دولة تفتقر إلى الموارد الطبيعية، إنجازًا استثنائيًا يستحق الدراسة والتحليل.
– امتدت فترة الهيمنة البريطانية على سنغافورة لأكثر من قرن، إلا أن هذا الاستعمار الطويل فشل في حماية الجزيرة من تقلبات الدهر.
– فخلال الحرب العالمية الثانية، عجزت بريطانيا عن حماية مستعمرتها من الغزو الياباني، مما أثار حفيظة القوميين وولّد رغبة عارمة في التخلص من الاستعمار، لتُتوج هذه المساعي في النهاية باستقلال سنغافورة.
– وفي الحادي والثلاثين من أغسطس عام 1963، انتهت فترة الوصاية البريطانية على سنغافورة وانضمت إلى اتحاد ماليزيا الوليد.
– بيد أن هذا الاندماج لم يدم طويلًا، فقد شهدت السنوات القليلة التالية صراعات اجتماعية عميقة بين المجموعتين العرقيتين الرئيسيتين، مما أدى إلى تصاعد حدة التوتر وتزايد أعمال الشغب والعنف.
– كان التفاوت العددي الكبير بين الصينيين والملايو، لصالح الصينيين، مصدر قلق كبير للسياسيين من الملايو الذين رأوا في ذلك تهديدًا لهويتهم السياسية والثقافية.
– وفي محاولة للحفاظ على هوية الملايو والحد من نفوذ الشيوعية، قرر البرلمان الماليزي فصل سنغافورة عن الاتحاد.
– وبذلك، حصلت سنغافورة على استقلالها في التاسع من أغسطس عام 1965، وتولى يوسف بن إسحاق مقاليد الرئاسة، فيما تسلم لي كوان يو مقاليد الحكم كأول رئيس وزراء للجمهورية الوليدة.
– وقد واجهت سنغافورة تحديات جساماً بعد نيل استقلالها، وعانت المدينة، التي كانت تضم ثلاثة ملايين نسمة، من معدلات بطالة مرتفعة، حيث كان غالبية سكانها عاطلين عن العمل.
– علاوة على ذلك، عاش أكثر من ثلثي السكان في أحياء فقيرة ومستوطنات عشوائية تقع على أطراف المدينة، وعانت الدولة الوليدة من نقص حاد في الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى مشاكل في البنية التحتية، والصرف الصحي، وإمدادات المياه.
– وفي محاولة لتحفيز التنمية، ناشد القادة المجتمع الدولي للمساعدة، إلا أن تلك النداءات لم تجد آذانًا مُصغية، وبهذا، وجدت سنغافورة نفسها مضطرة لمواجهة هذه التحديات الهائلة بمفردها.
عولمة الصناعة والتجارة
– تأسس اقتصاد سنغافورة في الحقبة الاستعمارية على تجارة السلع العابرة أو الترانزيت، وهي عملية نقل البضائع عبر أراضي الدولة من ميناء إلى آخر دون تفريغها.
– بيد أن هذا النموذج الاقتصادي لم يكن ليؤدي إلى خلق فرص عمل كافية بعد الاستقلال، بل زادت معدلات البطالة مع انسحاب القوات البريطانية.
– كان الحل الأمثل لمواجهة التحديات الاقتصادية وارتفاع معدلات البطالة في سنغافورة هو تبني خطة شاملة لتنمية الصناعة، مع التركيز على القطاعات التي تتطلب كثافة في العمالة.
– إلا أن سنغافورة لم تكن تمتلك قاعدة صناعية راسخة، حيث كانت غالبية القوة العاملة تعمل في مجالات التجارة والخدمات، وبالتالي، لم يكن لدى السكان المهارات والخبرات اللازمة للانتقال إلى العمل في الصناعات التحويلية.
– أدرك قادة سنغافورة، بفعل الضغوط المتزايدة لتوفير فرص عمل، أن العولمة هي السبيل الأمثل لتطوير اقتصاد بلادهم، فقرروا الانخراط في الاقتصاد العالمي وجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي من شأنها أن تساهم في تحقيق التنمية الصناعية في سنغافورة.
مركزية الحكومة
– كان على سنغافورة أن توفر بيئة استثمارية جاذبة تتميز بالأمان والاستقرار وخلوها من الفساد، مع نظام ضريبي تنافسي لتجذب الاستثمارات الأجنبية.
– ولتحقيق تلك الغايات، اضطر المواطنون إلى التنازل عن جزء من حرياتهم لصالح حكومة قوية ذات سيطرة مركزية.
– واتخذت الحكومة إجراءات صارمة لمكافحة الجريمة، خاصة تجارة المخدرات والفساد، وصلت إلى حد تطبيق عقوبة الإعدام على مرتكبي هذه الجرائم.
– كما قامت الحكومة بقمع النقابات العمالية المستقلة ووضعها تحت سيطرتها المباشرة، وأخضعت المعارضين للوحدة الوطنية أو السياسية لإجراءات قانونية سريعة وحازمة.
– وأثبتت هذه السياسات جدواها في جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث قدمت سنغافورة للمستثمرين بيئة قانونية مستقرة وقوانين تجارية مشجعة.
– وعلى النقيض من دول الجوار التي عانت من تقلبات سياسية واقتصادية، تميزت سنغافورة باستقرارها السياسي والاقتصادي.
– بالإضافة إلى ذلك، فإن موقعها الاستراتيجي ونظام موانئها المتطور جعلها مركزًا تجاريًا وصناعياً جذابًا.
تأمين المستثمرين
– استطاعت سنغافورة في غضون سبع سنوات فقط من استقلالها أن توفر بيئة استثمارية جاذبة، جذبت إليها العديد من المستثمرين الأجانب، لاسيما من الولايات المتحدة واليابان، ونتيجة لذلك، كان ربع شركات التصنيع في البلاد إما مملوكة بالكامل لأجانب أو ترتبط بشراكات دولية.
– وساهم هذا المناخ الاستثماري المستقر والتوسع الاقتصادي العالمي في تحقيق نمو اقتصادي قوي، تجلى في ارتفاع معدلات النمو السنوي للناتج المحلي الإجمالي.
– مع تدفق الاستثمارات الأجنبية، انطلقت سنغافورة في رحلة متكاملة لتطوير بنيتها التحتية ورأس مالها البشري.
– وأولت البلاد اهتمامًا كبيرًا للتعليم الفني والتدريب المهني، حيث أنشأت العديد من المعاهد المتخصصة وشجعت الشركات العالمية على تدريب القوى العاملة المحلية في مجالات حيوية مثل تكنولوجيا المعلومات والبتروكيماويات والإلكترونيات.
– أما بالنسبة لمن لم يتمكنوا من الاندماج في القطاع الصناعي، فقد وجهتهم الحكومة نحو قطاعات الخدمات التي تتطلب كثافة عاملة، مثل السياحة والنقل.
– وقد حققت هذه الاستراتيجية الذكية في تدريب القوى العاملة، بالتعاون مع الشركات المتعددة الجنسيات، نجاحًا باهرًا، حيث حققت البلاد قفزات نوعية في مجال الصناعة.
– ففي السبعينيات، كانت صادرات سنغافورة تتركز في المنتجات التقليدية مثل المنسوجات والملابس والإلكترونيات البسيطة.
– ولكن بحلول التسعينيات، تحولت إلى قوة صناعية عظمى، حيث تصدرت الرقائق الإلكترونية المتطورة والخدمات اللوجستية المتكاملة.
إنشاء اقتصاد السوق
– تحولت سنغافورة اليوم إلى نموذج للدولة الصناعية المتقدمة، حيث لا تزال التجارة الدولية تشكل عصب اقتصادها النابض.
– وتمكن ميناء سنغافورة من تصدر قائمة أكثر موانئ الحاويات ازدحامًا على مستوى العالم، متفوقًا على عمالقة مثل هونغ كونغ وروتردام، كما أنه يحتل المركز الثاني عالميًا من حيث إجمالي حجم الشحن، بعد ميناء شنغهاي الصيني العملاق.
– كما شهد القطاع المصرفي نموًا متسارعًا في الآونة الأخيرة، مما دفع العديد من المؤسسات المالية إلى نقل أصولها الاستثمارية من سويسرا إلى سنغافورة، هربًا من الضرائب الجديدة المفروضة على الأجانب.
كيف نمت سنغافورة؟
– حققت سنغافورة إنجازًا اقتصاديًا مبهرًا رغم صغر مساحتها التي لا تتجاوز 734 كيلومتراً مربعاً، وقوة عاملة محدودة لا تتعدى 3 ملايين نسمة، حيث تجاوز ناتجها المحلي الإجمالي سنويًا حاجز الـ 500 مليار دولار، متفوقة بذلك على معظم دول العالم.
– هذا النمو الاقتصادي الاستثنائي، إلى جانب متوسط عمر للفرد يصل إلى 83 عامًا، يجعل من سنغافورة نموذجًا عالميًا في التنمية البشرية، شريطة القبول ببيئة معيشية تتميز ببعض القيود.
– تثير التجربة السنغافورية، التي تقوم على مبدأ التضحية بجزء من الحريات من أجل تحقيق مكاسب اقتصادية، جدلاً مستمراً، وبصرف النظر عن مدى قبول هذا المبدأ، فإن نتائجه الملموسة على صعيد التنمية لا يمكن إنكارها.