تجربة نمو .. كيف حققت ألمانيا المعجزة الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية؟
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية دولة مدمرة ومنهكة اقتصاديا وتواجه مستقبلًا قاتمًا بشكل لا يصدق، لكنها استطاعت في وقت وجيز النهوض مجددًا لتصبح واحدة من أهم محركات النمو الاقتصادي العالمي.
وبحلول عام 1989 عندما هُدم جدار برلين ووُحدت ألمانيا من جديد، صارت محط إعجاب العالم بسبب إنجازها، فقد كانت تحتل المرتبة الثالثة لأقوى الاقتصادات العالمية بعد اليابان والولايات المتحدة الأمريكية.
بعد كل ما مرت به ألمانيا يمكننا أن نتفهم لماذا يُطلق الكثيرون على إعادة تطوّر ألمانيا بالمعجزة الاقتصادية. ولكن، كيف حققت هذا الإنجاز؟
ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية
– تروي الأرقام قصة أمة في حالة من الفوضى. حيث انخفض الإنتاج الصناعي بمقدار الثلث، وتناقصت الثروة العقارية بنسبة 20%، وتراجع الإنتاج الغذائي إلى نصف ما كان عليه قبل بداية الحرب.
– معظم الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا، قُتلوا أو أُصيبوا بإعاقة ما، والذين كانوا أهم المساهمين في إعادة البناء.
– في فترة الحرب، خصص هتلر حصصًا غذائية لكل شخص 2000 سعرة حرارية في اليوم الواحد على الأكثر.
– بعد الحرب، استمر الحلفاء باتباع هذا التقنين وخفضوا السعرات الحرارية المسموح بها إلى ما بين 1000 و1500 سعرة حرارية في اليوم الواحد.
– أدت ضوابط الأسعار على السلع والخدمات الأخرى إلى نقص كبير في المنتجات وتضخم السوق السوداء.
– فقدت العملة الألمانية (رايخ مارك) جزءًا كبيرًا من قيمتها، ما تطلّب من الشعب اللجوء إلى مقايضة المنتجات والخدمات.
– كانت ألمانيا في هذا الوقت مُحتلة من أربع دول، وسرعان ما سيتم تقسيمها إلى نصفين. إذ أصبح القسم الشرقي دولة اشتراكية وجزء من الستار الحديدي الذي تأثر بشدة بالسياسة السوفيتية.
– أما القسم الغربي فقد أصبح ديموقراطيًا، وعلقت العاصمة السابقة برلين في المنتصف والتي قُسمت بدورها بجدار برلين.
والتر أوكن
– يُعد والتر أوكن أهم شخص في إعادة بناء ألمانيا. وهو من أب حاصل على جائزة نوبل في الأدب.
– درس الاقتصاد في جامعة بون الألمانية، وبدأ بعد الحرب العالمية الأولى التدريس في تلك الجامعة. وفي النهاية انتقل إلى جامعة فرايبورغ التي أصبحت معروفة عالميًا بفضله.
السوق الحرة الاجتماعية
– اكتسب أوكن العديد من المتابعين في الجامعة التي أصبحت واحدة من الأماكن القليلة في ألمانيا الممكن لمعارضي هتلر التعبير فيها عن رأيهم.
– ولكن الأهم من ذلك، أنه بدأ أيضًا في تطوير نظرياته الاقتصادية، والتي أصبحت تعرف باسم مدرسة فرايبورغ، أو “السوق الحرة الاجتماعية”.
– كانت أفكار أوكن مبنية على مبدأ السوق الحرة الاشتراكية والسماح للدولة بالتدخل للتأكد من صحة عمل النظام على أكبر عدد ممكن من الشعب.
– على سبيل المثال، يجب وضع القوانين الصارمة لتجنب نشوء الاحتكارات، ويجب وضع نظام رعاية اجتماعية لحماية الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في حالات صعبة.
– كما أيد فكرة إنشاء بنك مركزي مستقل عن الحكومة ليركز على استخدام السياسات النقدية للحفاظ على استقرار الأسعار.
ردة الفعل على نظريات أوكن
– قد يبدو نظام أوكن الاقتصادي طبيعيًا اليوم، ولكن في ذلك الوقت كان يُنظر إليه على أنه متطرف للغاية. يجب علينا أن نفهم فلسفة أوكن مقارنةً بالحقبة التي عاش فيها لندرك مدى عظمة أفكاره.
– في تلك الحقبة حل الكساد الكبير الذي استنزف العالم بأسره وأثر على ألمانيا أكثر من غيرها، والتضخم الجامح الذي دمر الاقتصاد وأدى إلى صعود هتلر.
– اعتقد كثيرون أن النظام الاشتراكي هو النظرية الاقتصادية التي ستكتسح العالم. بعد فترة وجيزة من الحرب، تعين على ألمانيا الغربية تحت هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وقوى الحلفاء، اختيار الطريق للوصول إلى الازدهار الاقتصادي.
أبو المعجزة الاقتصادية الألمانية
– عندما كانت ألمانيا في بداية مرحلة إعادة البناء، احتدم الجدل حول السياسة المالية للدولة الجديدة، إذ أراد الكثير من قادة العمال وأعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي إبقاء رقابة الحكومة.
– ولكن أحد تلاميذ أوكن، ويدعى لودفيغ إيرهارت، الذي أصبح يُعرف باسم “أبو المعجزة الاقتصادية الألمانية”، كان قد بدأ يكتسب مكانة بارزة لدى القوات الأمريكية والتي كانت لا تزال تسيطر بحكم الأمر الواقع على ألمانيا.
بدايات إيرهارت
– يعد إيرهارت أحد المخضرمين في الحرب العالمية الأولى، وقد ذهب إلى مدرسة تجارة، وعمل باحثًا في إحدى المنظمات التي ركزت على الاقتصاد في مجال المطاعم.
– في عام 1944، عندما كان الحزب النازي ما يزال مسيطراً على ألمانيا، كتب إيرهارت مقالة لمناقشة الوضع الاقتصادي الألماني في حال خسر النازيون الحرب.
– وصلت مقالته في نهاية المطاف إلى قوات الاستخبارات الأمريكية الذين حاولوا الوصول إليه بعد ذلك.
– وبمجرد استسلام ألمانيا، تم تعيينه في منصب وزير مالية بافاريا ومن ثم عمل جاهدًا للوصول إلى منصب مدير المجلس الاقتصادي في ألمانيا الغربية وفي النهاية حصل عليه.
العملة الألمانية الجديدة
– بدأ إيرهارت -بمجرد أن اكتسب نفوذاً سياسياً- في القيام بمحاولات متعددة الاتجاهات لإعادة اقتصاد ألمانيا الغربية إلى الحياة.
– في البداية، كان له دور مهم في إنشاء عملة جديدة بدلًا من العملة القديمة التي كانت قد فقدت قيمتها.
– الهدف من هذا التغيير للعملة هو خفض كمية العملة المتوفرة لدى العامة بنسبة 93%، إذ ساعد هذا القرار على الحد من التدهور المادي لدى الأشخاص والشركات، وتخفيض الضرائب لزيادة الإنفاق والاستثمار.
– كان من المقرر طرح العملة في 21 يونيو 1948. وفي خطوة مثيرة للجدل، قرر إيرهارت أيضًا إلغاء ضوابط الأسعار في اليوم ذاته.
ازدهار المعجزة الاقتصادية
– بين عشية وضحاها، عادت ألمانيا الغربية إلى الحياة. إذ قام التجار بملء مخازنهم بعد تأكدهم من أن العملة الجديدة لها قيمة حقيقية.
– وسرعان ما توقفت المقايضة وانتهت السوق السوداء، بينما ترسخت السوق التجارية وعاد حس العمل عند الناس من جديد، وعاد الحس الصناعي الشهير عند الألمان.
خطة مارشال
– إضافةً إلى إعادة بناء ألمانيا، كان هناك برنامج الإصلاح الأوروبي، الذي أُطلق عليه اسم “خطة مارشال”.
– صاغ هذا القانون وزير الخارجية الأمريكي جورج مارشال، حيث قدمت الولايات المتحدة الأمريكية 15 مليار دولار إلى الدول الأوروبية المتضررة من الحرب العالمية الثانية. مع تخصيص جزء كبير من هذه الأموال لألمانيا.
– قدر البعض أن المساعدات من خطة مارشال ساهمت بأقل من 5% في الدخل القومي لألمانيا خلال تلك الفترة.
– استمر نمو ألمانيا الغربية على مر السنين. وبحلول عام 1958، كان إنتاجها الصناعي أعلى بأربعة أضعاف مما كان عليه قبل عقد واحد فقط.
الخلاصة
– خلال تلك الحقبة الزمنية، وجدت ألمانيا نفسها عالقة في خضم الحرب الباردة، كانت ألمانيا الغربية حليفًا قويًا لأمريكا وكانت رأسمالية إلى حد كبير، في حين كانت ألمانيا الشرقية متحالفة بشكل وثيق مع الاتحاد السوفيتي وكانت شيوعية.
– وقد قدمت هاتان الدولتان الفرصة المناسبة لمقارنة أكبر نظامين اقتصاديين في العالم (الاشتراكية والرأسمالية).
– والمثير للدهشة أنه لم يكن هناك مجال للمقارنة. بينما ازدهرت ألمانيا الغربية، تخلفت ألمانيا الشرقية.
– بسبب الاقتصاد المتعثر ونقص الحريات السياسية، سرعان ما احتج سكان ألمانيا الشرقية وحاولوا مغادرة البلاد بأعداد كبيرة على الرغم من القوانين التي تقيد السفر.
– في 9 نوفمبر 1989، سمحت حكومة ألمانيا الشرقية لأول مرة لبعض سكانها بالذهاب إلى ألمانيا الغربية، ما أدى إلى بداية سقوط نظام ألمانيا الشرقية ثم توحيد القسمين معًا، لكن مر وقت طويل قبل أن تتم المساواة بين القسمين.
– فعندما بدأ التوحيد بين الطرفين الشرقي والغربي كان القسم الشرقي يملك 30% فقط من الإجمالي المحلي للفرد الواحد مقارنةً بألمانيا الغربية، وحتى بعد 30 عامًا زاد هذا الرقم فقط إلى 75%.
– لم يكن أيّ من هذا ممكنًا، لكن بفضل والتر أوكن ولودفيغ إيرهارت وكثيرين غيرهم حدثت المعجزة الاقتصادية الألمانية.