بولندا: نموذج للتطور الاقتصادي الاستثنائي في أوروبا
– في تلك الليلة التي شهدت سقوط الستار الحديدي، 9 نوفمبر 1989، كُتب فصل جديد من التاريخ الأوروبي، كاشفًا بوضوح عن عمق الهوة التي تفصل بين جيران عاشوا قروناً جنباً إلى جنب.
– كانت الفجوة الاقتصادية شاسعة لدرجة أنها كشفت عن تباينات اجتماعية وثقافية لم يتوقعها الكثيرون، فبينما كانت بولندا تكافح للنهوض، كانت ألمانيا الغربية تخطو بثقة نحو مستقبل مزدهر.
– غير أن الآفاق الاقتصادية في أوروبا الشرقية شهدت انتعاشًا ملحوظًا بفضل تعميق التكامل الاقتصادي في القارة العجوز خلال تسعينيات القرن العشرين.
– سعت ألمانيا الموحدة جاهدة لخلق منطقة نفوذ اقتصادي متجانس في جوارها الشرقي، حتى لو تطلب ذلك بذل جهود دبلوماسية مكثفة على صعيد الاتحاد الأوروبي.
– وفي التسعينيات، شهدت دول أوروبا الشرقية تحولاً اقتصادياً سريعاً، حيث أصبحت مصانعها ورش عمل لتجميع المنتجات النهائية وفقاً لتصاميم جاهزة، وذلك لجذب الاستثمارات الأجنبية التي كانت تبحث عن تكاليف إنتاج منخفضة.
– كانت هذه الدول توفر عمالة رخيصة ومرنة، تقوم بتنفيذ المهام المطلوبة بدقة عالية، مما سمح بتصدير كميات كبيرة من المنتجات الصناعية ذات القيمة المضافة المنخفضة إلى الأسواق العالمية.
– ويعكس هذا النموذج الاقتصادي انخفاضاً حاداً في أجور العمال، ففي بولندا مثلاً، تراجعت حصة الأجور في الناتج المحلي الإجمالي من 63% إلى 46% خلال عقدين من الزمن، لتصل إلى مستوى أقل بكثير من نظيرتها في الدول الأوروبية الغنية.
– ولتوضيح الفارق، كان العامل في مصنع سيارات ألماني يتقاضى راتباً شهرياً يفوق أربعة أضعاف راتب نظيره في بولندا أو التشيك أو سلوفاكيا أو المجر.
– بالنسبة لدول أوروبا الشرقية، كان الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004 بمثابة منحة حياة جديدة، فاتحة آفاقًا واسعة من التنمية والرخاء.
– شهدت هذه الدول تدفقًا كبيراً للاستثمارات الأجنبية، ووفرت لعمالها فرص عمل وافرة، كما أتاحت لطلابها فرصة الدراسة في أفضل الجامعات.
– ساهم الاتحاد الأوروبي بشكل كبير في دعم اقتصادات هذه الدول، حيث قدم لها مساعدات مالية ضخمة، مما أدى إلى نمو ملحوظ في الناتج المحلي الإجمالي.
– منذ عام 2004، ارتبط الاقتصاد البولندي بالألماني برباط وثيق، وتكمن أهمية ألمانيا بالنسبة لبولندا في كونها تمثل ركيزة أساسية للاقتصاد البولندي، إذ تستحوذ على ربع صادرات بولندا تقريباً، متجاوزة بذلك أهمية أكبر ستة أسواق لصادراتها مجتمعة، وعلى الجانب الآخر، لا تتجاوز حصة بولندا من الصادرات الألمانية 6%.
– حققت بولندا إنجازًا اقتصاديًا غير مسبوق في أوروبا، حيث استمر نموها الاقتصادي على مدى ثلاثة عقود متتالية.
– شهد ناتجها المحلي الإجمالي زيادة هائلة، تضاعف عشرة أضعاف بالقيمة الاسمية، وارتفع ستة أضعاف بعد تعديل تكاليف المعيشة.
– علاوة على ذلك، تتمتع بولندا بمؤشرات اجتماعية مبهرة، حيث سجلت أدنى معدل بطالة في تاريخها، وأقل معدل وفيات للرضع مقارنة بكندا، وأعلى متوسط عمر متوقع للإناث مقارنة بالولايات المتحدة، وأدنى معدلات جرائم العنف مقارنة بالمملكة المتحدة، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تشتهر الطرق السريعة في بولندا بكفاءتها وسلامتها.
– كما شهد قطاع صناعة السيارات تحولًا جذريًا غير متوقع، حيث أثبتت دول أوروبا الشرقية، وعلى رأسها بولندا، أنها أكثر من مجرد مصانع تجميع بسيطة.
– تمكنت هذه الدول من الانتقال إلى مرحلة أكثر تقدمًا في سلسلة القيمة، حيث أصبحت قادرة على تصميم وتصنيع مكونات السيارات بدلًا من الاكتفاء بتجميع الأجزاء المستوردة.
– وشهدت المصانع في أوروبا الشرقية تطورًا ملحوظًا، حيث تحولت من الاعتماد على استيراد المكونات من الدول الأوروبية الغربية إلى إنتاج مكونات عالية الجودة محليًا.
– وتخطت بولندا ذلك لتصل إلى مرحلة تصدير السيارات كاملة، بالإضافة إلى مكوناتها الأساسية مثل المحركات وبطاريات السيارات الكهربائية.
– على الجانب الآخر، ارتبط انضمام بولندا إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004 بآمال عريضة في تحقيق قفزات نوعية في المستوى المعيشي والنمو الاقتصادي، وإتاحة فرص جديدة للشعب البولندي.
– غير أن هذا الانضمام كشف عن وجه آخر للاتحاد، يتمثل في هيمنة الدول المؤسسة، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا، على صياغة السياسات وتوجيه الاستثمارات وفق مصالحها الخاصة.
– ففي مجال البنية التحتية مثلاً، أولت مشاريع الاتحاد الأوروبي في بولندا اهتمامًا كبيرًا بتطوير محور شرق-غرب، ما عزز من مكانة ألمانيا وموانئها على بحر الشمال، على حساب محور شمال-جنوب الذي كان من شأنه أن يحول بولندا إلى مركز تجاري حيوي في أوروبا الشرقية.
– وعندما بدأت بولندا تسجل نجاحات ملحوظة في قطاع النقل البري، سعت ألمانيا إلى فرض قيود جديدة على سائقي الشاحنات، مما أضر بقدرة الشركات البولندية على المنافسة، والتي توظف مئات الآلاف من العمال وتمثل نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي.
– في بولندا، يبدو أن تطبيق قواعد الاتحاد الأوروبي يتم بشكل انتقائي، لصالح الدول الغنية، على حساب مصالح الدول الأعضاء الجديدة.
– غير أن ميزان القوى داخل الاتحاد بدأ يتغير تدريجياً، مما قد يفضي إلى تحولات جوهرية في سياسات الاتحاد، وقد لا تكون هذه التحولات مقبولة لدى الجميع.
– شهدت العلاقات البولندية الألمانية في السنوات الأخيرة توترات سياسية واقتصادية متزايدة. وعلى الصعيد السياسي، أثار التشكك في جدية الموقف الألماني إزاء انتهاكات السيادة الأوكرانية، لا سيما تهديدها بقطع إمدادات الغاز عن أوروبا، قلقاً بالغاً في المنطقة.
فما الذي يضمن عدم تكرار هذا السيناريو مع بولندا؟
– أما على الصعيد الاقتصادي، فبينما لا تزال العلاقات التجارية بين البلدين تعتمد بشكل كبير على النموذج التقليدي للتصنيع المنخفض التكلفة، تشير مؤشرات جديدة إلى تحول عميق في المشهد الاقتصادي البولندي.
– فبفضل الاستثمارات في التكنولوجيا المتقدمة، مثل الأقمار الصناعية النانوية وأنظمة الدفاع الجوي المتطورة، باتت بولندا قادرة على منافسة ألمانيا في قطاعات استراتيجية.
– كما أن النمو المتسارع لشركات التكنولوجيا الناشئة، والتي تجذب استثمارات ضخمة، يعكس التحول نحو اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار.
– ليس من المستغرب أن تسعى ألمانيا، مستغلة نفوذها داخل الاتحاد الأوروبي، إلى عرقلة المشاريع البولندية الاستراتيجية، مثل إنشاء محطات نووية جديدة وتطوير الممرات المائية.
– تشكّل هذه المشاريع تهديدًا مباشرًا لمصالح الموانئ الألمانية، مما يكشف عن المنافسة الاقتصادية الحادة بين البلدين.
– تشهد أنماط التعاون الاقتصادي القائمة على تقسيم العمل بين الدول المركزية والدول الطرفية تحديات متزايدة على الصعيدين العالمي والإقليمي.
– فمع نمو قوة الاقتصادات الطرفية، تظهر نزعات نحو الاستقلال والتفرد، مما قد يؤدي إلى توترات وتنافس. قد نشهد تكرارًا لمنافسات عالمية على نطاق إقليمي، كما يتضح من التنافس البولندي الألماني.
– مع صعود نجم أوروبا الشرقية، تبرز تساؤلات حول دورها في النظام الدولي، فالتاريخ يعلمنا أن من لا يحضر إلى مائدة المفاوضات فسيجد نفسه موضوعًا للمفاوضات.