المعادن اللازمة للطاقة النظيفة: استثمارات هائلة وتفوق صيني في السوق
بينما كانت الشمس تغرب خلف الجبال، انطلقت شاحنات ضخمة محملة بالمعادن من أحد المناجم النائية في جبال أمريكا الجنوبية، استعداداً لنقلها إلى أحد مصانع البطاريات في آسيا. مشهد انتقال المواد الخام من مصادرها للمصانع مشهد مألوف على مدار العقود الماضية، لكن غير المعتاد أن تلك الشاحنات تحمل بين جانبيها مستقبل العالم.
فتلك الشاحنات المحملة بالليثيوم أصبحت من بين العناصر الحيوية اللازمة لمشهد الطاقة الخضراء، وهي الطاقة التي يعول عليها العالم لوقف ما يعرف بظواهر التغير المناخي التي تشتد ضراوة يوماً بعد يوم.
ففي الوقت الذي يسعى فيه العالم للابتعاد عن الوقود الأحفوري، تحتل معادن الطاقة النظيفة قلب الثورة الخضراء، وتعتبر المفتاح لتحقيق مستقبل مستدام يعتمد على الطاقة المتجددة.
لكن خلف هذا المشهد الهادئ، تخفي المعادن قصصاً معقدة من الاكتشافات العلمية، والبحث المتواصل عن مصادر جديدة، والصراع على السيطرة على الموارد.
فمن بطاريات السيارات الكهربائية إلى توربينات الرياح التي تقف شامخة على التلال، أصبحت هذه المعادن جوهر التحول نحو مستقبل نظيف، لكن هذا التحول يعتمد على مصادر غير متجددة في الوقت نفسه، فهل لدينا ما يكفي منها؟
هذا التحدي يثير تساؤلاً أيضاً بشأن كيفية تحقيق التوازن بين الحاجة الملحة للحد من التغير المناخي والحفاظ على البيئة أثناء استخراج هذه الموارد الثمينة.
يعتمد الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري على توفير إمدادات كافية وبأسعار تنافسية من المعادن الحيوية لدعم تحول العالم للطاقة الخضراء، بما في ذلك النحاس والليثيوم والنيكل والكوبالت وغيرها.
فالبطارية المستخدمة في سيارتك الكهربائية، والألواح الشمسية المستخدمة في محطات توليد الكهرباء كلها تعتمد على ما يعرف بمعادن الطاقة النظيفة.
فالعالم يعول بشكل كبير على التحول للطاقة المتجددة حتى لا يتجاوز الارتفاع في درجات الحرارة 1.5 درجة مئوية في القريب العاجل لتجنب أسوأ آثار تغير المناخ المدمرة.
وبموجب اتفاق باريس، وافقت البلدان على إبقاء متوسط ارتفاع درجة الحرارة العالمية على المدى الطويل إلى أقل بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الصناعة، وبذل جهود للحد منها إلى 1.5 درجة مئوية بحلول نهاية هذا القرن.
وحذرت الأوساط العلمية مراراً وتكراراً من أن ارتفاع درجة الحرارة بأكثر من 1.5 درجة مئوية قد يؤدي إلى إطلاق العنان لتأثيرات أشد خطورة لتغير المناخ والطقس المتطرف. وتشمل هذه التأثيرات موجات الحر الشديدة وتزايد الفيضانات وموجات الجفاف، وانخفاض الجليد البحري والأنهار الجليدية، وتسارع ارتفاع مستوى سطح البحر ما يهدد بغرق العديد من المدن الساحلية.
وفي مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ في دبي (كوب 28)، اتفقت الحكومات على مضاعفة قدرة الطاقة المتجددة ثلاث مرات بحلول عام 2030، ولكن لا سبيل لتحقيق هذا الهدف دون زيادة كبيرة في المعروض من هذه المعادن الحيوية.
ووفقاً لوكالة الطاقة الدولية، من المتوقع أن ينمو الطلب على المعادن للاستخدام في الطاقة النظيفة بمقدار ثلاثة أضعاف ونصف بحلول عام 2030 على الطريق للوصول إلى الصافي الصفري لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية بحلول عام 2050.
وفي فعالية تابعة للأمم المتحدة في أبريل الماضي، قال “أنطونيو غوتيريش”، الأمين العام للمنظمة، إن العالم الذي يعمل بالطاقة المتجددة “هو عالم متعطش للمعادن الحيوية”، وأكد أن هذه المعادن هي جوهر التحول من الوقود الأحفوري إلى مصادر الطاقة المتجددة.
يحتاج قطاع التعدين العالمي إلى استثمارات ضخمة تصل قيمتها إلى نحو 2.1 تريليون دولار أمريكي حتى عام 2050، لزيادة إنتاج المواد الخام التي تسهم في تقليل الانبعاثات والوصول إلى الانبعاثات الصفرية، بحسب تقرير نشرته شركة تابعة لبلومبرج هذا الشهر.
وأدى نقص الإمدادات من المواد الخام من معادن الطاقة النظيفة مع تصاعد الطلب إلى إعاقة الإسراع بتبني تقنيات الطاقة النظيفة في ظل ارتفاع أسعار تلك المعادن.
وقال “كواسي أمبوفو” رئيس المعادن والتعدين في بلومبرج نيو إنرجي فاينانس والمساهم الرئيسي في التقرير إن “العجز المطول لتلك المعادن سيرفع أسعار المواد الخام، ما يزيد من تكلفة تقنيات الطاقة النظيفة”.
وفي حال تواصل خطط الطاقة النظيفة المعلنة، فإنه من المتوقع أن يحتاج العالم لنحو 3 مليارات طن متري من تلك المعادن بين عامي 2027 و2050 لبناء حلول منخفضة الانبعاثات الكربونية مثل المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح وأجهزة التحليل الكهربائي.
وأفاد التقرير بأن هذا الرقم مرجح للارتفاع ليصل إلى 6 مليارات طن للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2050.
ورغم الدور الذي يمكن أن تلعبه عمليات إعادة التدوير في تلبية جزء من الطلب على تلك المعادن، فإن تلك العمليات لن تكون كافية لتغطية العجز في المعروض.
ومن المتوقع أن تصبح جنوب شرق آسيا أسرع سوق نمواً في معادن الطاقة النظيفة في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين.
يواجه إنتاج معادن الطاقة النظيفة تحدياً كبيراً مع تركز الكثير منها في مناطق جغرافية محددة، ما يثير المخاوف بشأن أمن الإمدادات.
فعلى سبيل المثال توفر جمهورية الكونغو الديمقراطية 70% من الكوبالت اليوم؛ وجمهورية الصين الشعبية 60% من العناصر الأرضية النادرة؛ وإندونيسيا أكثر من 45% من النيكل، كما أن إنتاج الليثيوم يتركز بشكل كبير في كل من أستراليا (47%) وتشيلي (30%).
الدول المهيمنة على معادن الطاقة النظيفة بحسب الوكالة الدولية للطاقة المتجددة |
|||||||
المعدن |
نسبة استحواذ الدول |
||||||
النحاس |
|
الصين (24%) |
|
بيرو (10%) |
|
الكونغو (10%) |
|
النيكل |
|
إندونيسيا (49%) |
|
الفلبين (10%) |
|
روسيا (7%) |
|
الكوبلت |
|
الكونغو (70%) |
|
إندونيسيا (5%) |
|
روسيا (5%) |
|
الليثيوم |
|
الصين (15%) |
|
تشيلي (30%) |
|
أستراليا (47%) |
|
البلاتنيوم |
|
جنوب إفريقيا (74%) |
|
روسيا (11%) |
|
زيمبابوي (8%) |
|
الجرافيت |
|
الصين (64%) |
|
موزمبيق (13%) |
|
مدغشقر (8%) |
|
كما أن معالجة هذه المعادن تتم في مناطق محدودة للغاية، حيث تتحمل الصين مسؤولية تنقية 90% من العناصر الأرضية النادرة و60-70% من الليثيوم والكوبالت.
كما تعد الصين المورد العالمي الرائد لتقنيات الطاقة النظيفة اليوم ومصدراً صافياً للعديد منها، حيث تمتلك الصين ما لا يقل عن 60% من القدرة التصنيعية العالمية لمعظم التقنيات المستخدمة في الطاقة النظيفة مثل البطاريات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية وتوربينات الرياح، وتصنع نحو 40% من المحللات الكهربائية.
وتعتبر أوروبا من أكبر مستوردي تلك المكونات، باستثناء مكونات توربينات الرياح؛ حيث يتم استيراد نحو ربع السيارات الكهربائية والبطاريات، وجميع وحدات الطاقة الشمسية الكهروضوئية وخلايا الوقود تقريباً، ومعظمها من الصين.
بالنسبة للطاقة الشمسية الكهروضوئية، تزود الصين المعدات مباشرة لجميع الأسواق باستثناء أمريكا الشمالية، كما تستورد الولايات المتحدة ثلثي وحدات الطاقة الشمسية الكهروضوئية، من جنوب شرق آسيا.
تضاعف مؤشر أسعار المعادن الانتقالية للطاقة التابع لوكالة الطاقة الدولية، والذي يتتبع سعر سلة من النحاس، والمعادن الرئيسية للبطاريات الكهربائية، والعناصر الأرضية النادرة، ثلاث مرات في العامين التاليين لشهر يناير 2020.
لكن المؤشر تخلى عن معظم الزيادة بحلول نهاية عام 2023 – على الرغم من أن أسعار النحاس ظلت عند مستويات مرتفعة.
نسبة هيمنة الدول على احتياطيات العالم من النحاس |
|
الدولة |
النسبة |
تشيلي |
%19 |
بيرو |
%12 |
أستراليا |
%10 |
روسيا |
%8 |
الكونغو |
%8 |
المكسيك |
%5 |
الولايات المتحدة |
%5 |
الصين |
%4 |
يأتي هذا رغم نمو الطلب على المعادن الحيوية بشكل كبير في عام 2023، حيث ارتفع الطلب على الليثيوم بنسبة 30%، في حين شهد الطلب على النيكل والكوبالت والجرافيت والعناصر الأرضية النادرة زيادات تتراوح من 8% إلى 15%.
وكان السبب الرئيسي لانخفاض الأسعار هو الزيادة القوية في العرض والمخزونات الوفيرة من المكونات التي تحتاجها الطاقة النظيفة.
وأصبحت تطبيقات الطاقة النظيفة المحرك الرئيسي لنمو الطلب على مجموعة من المعادن الحيوية، كما عززت المركبات الكهربائية مكانتها كأكبر شريحة مستهلكة لليثيوم، وزادت حصتها بشكل كبير في الطلب على النيكل والكوبالت والجرافيت.
وارتفعت مبيعات السيارات الكهربائية بنحو 35% في عام 2023، مقابل العام السابق، ومن المتوقع أن تزيد حصة مبيعات السيارات الكهربائية إلى 65% من إجمالي السيارات المبيعة في العام بحلول عام 2030.
ورغم استقرار السوق حالياً، فإن ذلك لا يعني أن الأوضاع ستكون جيدة في المستقبل، حيث من المتوقع استمرار الطلب على معادن الطاقة الخضراء جراء توسع انتشار الطاقة النظيفة.
ومن المتوقع زيادة القيمة السوقية المجمعة لمعادن الانتقال نحو الطاقة الخضراء مثل النحاس والليثيوم والنيكل والكوبالت، بأكثر من الضعف لتصل إلى 770 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2040 مقابل 325 مليار دولار أمريكي حالياً، بحسب بيانات وكالة الطاقة الدولية.