لطالما تميز الاقتصاد الأسترالي باستدامته ومرونته، حيث لم يشهد أي ركود اقتصادي يذكر منذ ثلاثة عقود، حتى الجائحة العالمية، التي أحدثت اضطرابات اقتصادية واسعة النطاق في العالم، لم تستطع إيقاف مسيرة النمو الاقتصادي الأسترالي الطويلة.
يعود هذا الأداء المتميز إلى عوامل عدة، منها الحكمة في اتخاذ القرارات الاقتصادية، والاستفادة من الفرص العالمية، مثل الطفرة الاقتصادية في الصين، ومع ذلك، فإن بعض السياسات الاقتصادية الحالية، مثل نظام الضرائب، تحتاج إلى تحديث لتعزيز النمو المستقبلي.
يستعرض هذا التقرير العوامل الخمسة التي يجب معالجتها لكي تستعيد أستراليا مكانتها الاقتصادية المميزة،. كما نسرد التحديات والفرص التي تواجه أستراليا في سبيل الحفاظ على نموها الاقتصادي المستدام وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي.
5 عوامل تدعم استعادة أستراليا لمكانتها الاقتصادية
|
1- تحسين نمو الإنتاجية البطيء
|
|
– بلغ متوسط إنتاجية العمالة في أستراليا 1.2% فقط منذ عام 2005، وهو رقم يمثل حوالي نصف المعدل الذي حققته أستراليا في التسعينيات.
– بيد أن هناك مجموعة من الأولويات الجوهرية التي تستدعي اهتمام أستراليا، ومن أبرزها تعزيز ديناميكية القطاع الخاص، وتشجيع التعاون المثمر بين العمال وأصحاب العمل، والاستثمار في رأس المال البشري من خلال التعليم والتدريب المستمر.
– وتتماشى هذه الأهداف مع الرؤية الحكومية الطموحة لتعزيز جهود البحث والتطوير، حيث تسعى إلى مضاعفة الاستثمارات الوطنية في هذا المجال لتصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يعزز مكانة أستراليا كرائدة في الابتكار.
– إزاء هذه الرؤية، يُطرح السؤال: ما هو الابتكار القادم الذي سيحدث نقلة نوعية؟
– قد يبدو الذكاء الاصطناعي هو الإجابة، ولكن بطريقة تختلف عما يتصوره الكثيرون، يرى خبراء الاقتصاد أن نماذج اللغة الكبيرة، مثل جي بي تي-4، تعد في الأساس “آلات تنبؤ”.
– تكمن قيمة الذكاء الاصطناعي في قدرته على تخفيض تكاليف التنبؤ بشكل كبير، وهو أمر مفيد بلا شك، لكنه قد لا يكفي وحده لتحقيق قفزة نوعية في الإنتاجية.
– ولكن، إذا استطاعت المؤسسات الاستفادة من هذه التنبؤات الدقيقة لإعادة هيكلة عملياتها، فإن النتيجة ستكون تحولاً جذرياً في الإنتاجية.
– لتحقيق أقصى استفادة من الذكاء الاصطناعي، يجب ربط التنبؤات الدقيقة بتحسين التصاميم، سواء كانت للمنتجات أو للعمليات.
– يتطلب ذلك بيئة تنظيمية تشجع على تبني الذكاء الاصطناعي وتيسر عملية إعادة هيكلة المؤسسات، مع توفير شبكات أمان للعمال المتأثرين بهذه التغيرات.
|
2- تحسين جودة ومستوى التعليم
|
|
– يواجه التعليم في أستراليا تحديات كبيرة، فنتائج الطلاب في الاختبارات الدولية، مثل PISA، تتراجع بشكل ملحوظ مقارنة بالدول الأخرى .
– يُذكر أن أداء الطلاب الأستراليين في الرياضيات والقراءة والعلوم قد تراجع بشكل كبير منذ بداية الألفية.
– كما زادت نسبة الطلاب الذين يعانون من صعوبات في التعلم، وانخفضت نسبة المتفوقين.
– ومع ذلك، فقد أظهرت أبحاث اقتصاديات التعليم أن بعض التدخلات التعليمية تحقق نتائج ملموسة .
– ومن بين هذه التدخلات الأكثر فاعلية: الدروس الخصوصية المكثفة، وبرامج تطوير المعلمين المهنية، وتوفير ملاحظات مستمرة للطلاب، واستخدام البيانات لتحسين العملية التعليمية، وتقليص أعداد الطلاب في الفصول الدراسية .
-وأظهرت الدراسات أن تخفيض حجم الفصل بنسبة 25% يؤثر تأثيرًا كبيرًا على نتائج الطلبة.
– وتكمن أهمية هذه النتائج في أنها تكشف عن محدودية التحليلات الإحصائية التقليدية، وتؤكد الحاجة إلى إجراء تجارب عشوائية في مجال التعليم بأستراليا.
|
3- التحول إلى الاقتصاد الأخضر
|
|
– يمثل تحقيق هدف الوصول بصافي الانبعاثات إلى الصفر بحلول عام 2050، وزيادة حصة الطاقة المتجددة في شبكة الكهرباء الأسترالية لتصل إلى 82% بحلول عام 2030، تحديًا متعدد الأبعاد، يشمل جوانب علمية وهندسية واقتصادية ولوجستية بالغة التعقيد.
– ورغم الإنجازات العلمية والتقدم التكنولوجي الذي تشهده أستراليا، لا يمكن التقليل من شأن حجم هذا التحدي.
– ففي حال تحرك العالم نحو تحقيق أهداف مماثلة، ستواجه صناعات الوقود الأحفوري الأسترالية صعوبات كبيرة في تصدير منتجاتها، مما سيؤدي إلى فجوة اقتصادية كبيرة قد تصل إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي.
– هناك سيناريو آخر محتمل وهو استمرار الاعتماد على الوقود الأحفوري وعدم تحقيق أهداف خفض الانبعاثات الكربونية على نطاق واسع.
– في هذه الحالة، ستظل صناعة التعدين في أستراليا تلعب دورًا حيويًا، ومع ذلك، نظراً لعدم يقين المستقبل، يجب الاستعداد لجميع الاحتمالات.
– لذلك من الضروري تطوير قدرات أستراليا في مجال الطاقة المتجددة لتلبية الطلب المتزايد، وذلك على افتراض أن هذا الأمر ممكن تقنيًا واقتصاديًا.
|
4- التحديات الناتجة عن شيخوخة المجتمع
|
|
– يشهد المجتمع الأسترالي، شأنه شأن المجتمعات المتقدمة، تحولًا ديموغرافيًا ملحوظًا يتمثل في زيادة نسبة كبار السن من السكان.
– حيث يبلغ عدد الأستراليين فوق سن الخامسة والثمانين في الوقت الحالي نحو 600 ألف نسمة، ومن المتوقع أن يتجاوز هذا العدد الـ 1.5 مليون نسمة بحلول منتصف القرن الحالي.
– تمثل هذه الزيادة المتوقعة في أعداد كبار السن في الوقت نفسه تحديًا وفرصة.
– فمن جهة، تتطلب توفير رعاية صحية واجتماعية مناسبة لهذه الفئة العمرية، ومن جهة أخرى، فإنها تشكّل قوة عاملة متمرسة وذات خبرة واسعة يمكن الاستفادة منها في العديد من المجالات.
– يتطلب تحقيق هذا الهدف تخطيطًا استراتيجيًا وتعاونًا بين مختلف القطاعات الحكومية والخاصة والمجتمع المدني.
|
5- تطور سلاسل التوريد العالمية
|
|
– قبل أن تتفاقم الجائحة، كانت العولمة تسير بخطى ثابتة، مدعومة بتقنيات معلوماتية متطورة.
– استغلت الشركات هذا الزخم لتحقيق كفاءة عالية في سلاسل توريدها، فخفضت المخزونات وتم تقليل التكاليف، وبدا هذا إنجازًا كبيرًا للعولمة.
– ولكن سرعان ما اكتشفنا أن هذا النظام الرشيق هش للغاية في مواجهة الأزمات العالمية.
– فاعتمادنا الشديد على سلاسل توريد ‘في الوقت المناسب’ جعلنا عرضة للتوقف المفاجئ للإنتاج.
– لذلك، بات من الضروري إعادة النظر في هذه الاستراتيجية، والتحوّل نحو سلاسل توريد أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع الظروف الطارئة.
– وفي الوقت نفسه، تبرز قضية أكثر خطورة، بعد أن أصبحت التجارة الدولية أداة جيوسياسية قوية، حيث ترتبط مصالح الدول الاقتصادية ارتباطًا وثيقًا بأمنها القومي.
– فكيف نفسر، على سبيل المثال، اعتماد ألمانيا الكبير على الغاز الروسي، أو اعتماد الولايات المتحدة على أشباه الموصلات التايوانية؟
– توضح هذه الأمثلة أن الجغرافيا السياسية يمكن أن تلقي بظلالها على التجارة العالمية، وتؤدي إلى عواقب وخيمة.
– المقصد هنا هو أنه لا يمكن تجاهل الحاجة إلى تنويع سلاسل الإمداد العالمية، ولكن يجب أن يتم ذلك بحكمة.
– إذ ليس من المنطقي توطين صناعات يمكن لأستراليا الاعتماد فيها على دول أخرى بأمان.
– على سبيل المثال، لا يوجد مبرر اقتصادي لإنشاء صناعة محلية للأشباه الموصلات في أستراليا.
– بدلاً من ذلك، قد تضطر إلى تطوير صناعات كانت تعتمد على التجارة الدولية، وهو ما قد يخلق فرص عمل جديدة.
|
|
في الختام، من الضروري تبني استراتيجيات مبتكرة تتماشى مع التغيرات العالمية والتحديات المحلية لضمان استمرار نجاح الاقتصاد الأسترالي في المستقبل.
ويجب تحديث السياسات الاقتصادية وتعزيز الاستثمار في التكنولوجيا والبنية التحتية، مع التركيز على استدامة شبكة الأمان الاجتماعي.
بتحقيق هذا التوازن، يمكن لأستراليا أن تحافظ على مكانتها كواحدة من أقوى الاقتصادات العالمية وتضمن الازدهار للأجيال القادمة.