الاقتصادية

الاستثمار السلبي: قوة مالية متزايدة بين الكفاءة والاختبارات المستقبلية

لم يعد الاستثمار السلبي مجرد استراتيجية بديلة للمستثمرين، بل أصبح اليوم لاعبًا رئيسيًا في أسواق المال العالمية، يعيد تشكيل طريقة توزيع رأس المال ويؤثر بشكل مباشر على الأسواق.

و يعتمد هذا النهج على شراء صناديق تتبع مؤشرات السوق، بدلًا من اختيار الأسهم الفردية، ما يمنح المستثمرين فرصة للاستفادة من أداء السوق ككل بتكلفة منخفضة وجهد إداري أقل.

خلال العقدين الأخيرين، اجتذبت صناديق المؤشرات والصناديق المتداولة تدفقات مالية هائلة، بفضل بساطتها وفعاليتها، إلى جانب تحقيقها لعوائد مستقرة على المدى الطويل.

ويعد كتاب “قوة الاستثمار السلبي” للكاتب ريتشارد فيري مرجعًا رئيسيًا لتوضيح هذا التحوّل، مدعومًا ببيانات وأبحاث أكاديمية دقيقة. ويبرز الكتاب أيضًا آراء جون بوجل، مؤسس فانجارد، الذي يشدد على أن الاستثمار السلبي لا يقلل التكاليف فحسب، بل يعزز فرص تحقيق عوائد مستقرة عبر تنويع الأصول وتقليل التدخل البشري.

يشهد التحوّل نحو الاستثمار السلبي حقيقة ملموسة؛ فقد تجاوزت حصة الصناديق السلبية في الولايات المتحدة نصف إجمالي الأصول المدارة في صناديق الاستثمار المشتركة والمتداولة، مع استمرار تدفقات مالية ضخمة إلى هذه الصناديق، في حين شهدت الصناديق النشطة تدفقات خارجة.

بحلول أغسطس 2025، بلغ إجمالي أصول صناديق المؤشرات والصناديق المتداولة نحو 18 تريليون دولار، بما يعكس حصة سوقية تبلغ حوالي 51.6% من الأصول طويلة الأجل.

ومنذ سنوات، ارتفعت حصة الصناديق السلبية من 26% إلى نحو 47%، مع تدفقات صافية تصل إلى 5.1 تريليون دولار، مقارنة بتدفقات خارجة بقيمة 384 مليار دولار نحو الصناديق النشطة.

يتصدر هذا القطاع العملاق ثلاثة مديري أصول رئيسيين: بلاك روك وفانجارد وستيت ستريت جلوبال أدفايزرز، الذين يمتلكون تأثيرًا هائلًا على السوق بفضل الأصول الضخمة التي يديرونها، ما يجعل تحركات الصناديق السلبية سببًا محتملاً لتقلبات سعرية وزيادة تركّز الملكية في عدد محدود من الشركات.

رغم مزايا الاستثمار السلبي، فإنه يطرح تحديات دقيقة على الأسواق. معظم الصناديق السلبية تتبع مؤشرات مرجّحة بالقيمة السوقية، ما يمنح الشركات الكبرى سيطرة كبيرة على المؤشرات.

و على سبيل المثال، تمثل أكبر عشر شركات في مؤشر إس آند بي 500 نحو ثلث الوزن السوقي، ما يحدّ من التنويع الحقيقي للمستثمرين ويجعل أداؤهم مرتبطًا بشكل أساسي بأداء عدد محدود من الأسهم العملاقة.

كما يثير الانتشار المتسارع للاستثمار السلبي تساؤلات حول قدرة الأسواق على اكتشاف الأسعار بكفاءة، إذ يقلل من الحافز لإجراء البحوث الأساسية على الشركات، ويضعف سيولة الأسهم الأقل تداولًا، ويجعل الأسعار أقل ارتباطًا بالأساسيات المالية.

عمليات إعادة موازنة المؤشرات تؤدي إلى تدفقات شراء أو بيع تلقائية، بغض النظر عن الأداء الفعلي للشركات، ما يخلق تقلبات مؤقتة قد لا تعكس القيمة الحقيقية للأصول.

رغم هذه المخاطر، يظل الاستثمار السلبي ابتكارًا مؤثرًا في عالم التمويل الحديث، حيث خفّض التكاليف، وزاد من قاعدة المستثمرين، وعزز الشفافية في الأسواق. ويصبح التحدي الأكبر فقط عندما تصل الصناديق السلبية إلى مستوى مهيمن، ما قد يقلل المنافسة النشطة ويحد من دورها في تحسين تخصيص رأس المال.

ولتوازن الفوائد والمخاطر، من الضروري دعم بيئة تجمع بين الصناديق النشطة والسلبية، وتطوير مؤشرات أكثر توازنًا مثل المؤشرات المتساوية الأوزان، إلى جانب تعزيز الشفافية في ممارسات الحوكمة والتصويت لدى مديري الصناديق الكبار.

بذلك، يمكن للمستثمرين الاستفادة من الكفاءة التي يوفرها الاستثمار السلبي، مع الحفاظ على الابتكار والديناميكية التي يقدّمها الاستثمار النشط، لضمان أن الأسواق المالية تواصل أداء وظائفها الأساسية بكفاءة.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى